فقد أخرج ابن مردويه وأبو نعيم في الحلية عن ابن عمر قال : «قرئ عند عمر هذه الآية فقال كعب : عندي تفسيرها قرأتها قبل الإسلام فقال هاتها يا كعب فإن جئت بها سمعت كما سمعت من رسول اللهصلىاللهعليهوسلم صدقناك قال : إني قرأتها قبل «كلمات نضجت جلودهم بدلناها جلودا غيرها» في الساعة الواحدة عشرين ومائة مرة فقال عمر : هكذا سمعته من رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وأخرج ابن أبي شيبة وغيره عن الحسن قال : «بلغني أنه يحرق أحدهم في اليوم سبعين ألف مرة كلما نضجتهم النار وأكلت لحومهم قيل لهم : عودوا فعادوا».
(لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) أي ليدوم ذوقه ولا ينقطع كقولك للعزيز : أعزك الله والتعبير عن إدراك العذاب بالذوق من حيث إنه لا يدخله نقصان بدوام الملابسة ، أو للإشعار بمرارة العذاب مع إيلامه أو للتنبيه على شدة تأثيره من حيث إن القوة الذائقة أشد الحواس تأثيرا أو على سرايته للباطن ، ولعل السر في تبديل الجلود مع قدرته تعالى على إبقاء إدراك العذاب وذوقه بحال مع الاحتراق أو مع بقاء أبدانهم على حالها مصونة عنه أن النفس ربما تتوهم زوال الإدراك بالاحتراق ولا تستبعد كل الاستبعاد أن تكون مصونة عن التألم والعذاب صيانة بدنها عن الاحتراق قاله مولانا شيخ الإسلام ، وقيل : السر في ذلك أن في النضج والتبديل نوع إياس لهم وتجديد حزن على حزن ، وأنكر بعضهم نضج الجلود بالمعنى المتبادر وتبديلها زاعما أن التبديل إنما هو للسرابيل التي ذكرها الله سبحانه بقوله : (سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ) [إبراهيم : ٥٠] وسميت السرابيل جلودا للمجاورة ، وفيه أنه ترك للظاهر ، ويوشك أن يكون خلاف المعلوم ضرورة ، وأن السرابيل لا توصف بالنضج وكأنه ما دعاه إلى هذا الزعم سوى استبعاد القول بالظاهر ، وليس هو بالبعيد عن قدرة الله سبحانه وتعالى (إِنَّ اللهَ كانَ عَزِيزاً) أي لم يزل منيعا لا يدافع ولا يمانع ، وقيل : إنه قادر لا يمتنع عليه ما يريده مما تواعد أو وعد به (حَكِيماً) في تدبيره وتقديره وتعذيب من يعذبه ؛ والجملة تعليل لما قبلها من الإصلاء والتبديل ، وإظهار الاسم الجليل لتعليل الحكم مع ما مر مرارا.
(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) عقب بيان سوء حال الكفرة ببيان حسن حال المؤمنين تكميلا للمساءة والمسرة ، وقدم بيان حال الأولين لأن الكلام فيهم ، والمراد بالموصول إما المؤمنون بنبيناصلىاللهعليهوسلم ، وإما ما يعمهم وسائر من آمن من أمم الأنبياء عليهمالسلام أي إن الذين آمنوا بما يجب الإيمان به وعملوا الأعمال الحسنة (سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) قرأ عبد الله ـ سيدخلهم ـ بالياء والضمير للاسم الجليل ، وفي السين تأكيد للوعد ، وفي اختبارها هنا واختيار (سَوْفَ) في آية الكفر ما لا يخفى.
(خالِدِينَ فِيها أَبَداً) إعظاما للمنة وهو حال مقدرة من الضمير المنصوب في (سَنُدْخِلُهُمْ) وقوله تعالى : (لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) أي من الحيض والنفاس وسائر المعايب والأدناس والأخلاق الدنيئة والطباع الرديئة لا يفعلن ما يوحش أزواجهن ولا يوجد فيهن ما ينفر عنهن في محل النصب على أنه حال من جنات ، أو حال ثانية من الضمير المنصوب أو أنه صفة لجنات بعد صفة ، أو في محل الرفع على أنه خبر للموصول بعد خبر.
والمراد أزواج كثيرة كما تدل عليه الأخبار (وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلاً) أي فينانا لا جوب فيه ، ودائما لا تنسخه الشمس وسجسجا لا حر فيه ولا قرّ ، رزقنا الله تعالى التفيؤ فيه برحمته إنه أرحم الراحمين ، والمراد بذلك إما حقيقته ولا يمنع منه عدم الشمس وإما أنه إشارة إلى النعمة التامة الدائمة ، والظليل صفة مشتقة من لفظ الظل للتأكيد كما هو عادتهم في نحو ـ يوم أيوم ، وليل أليل ـ وقال الإمام المرزوقي : إنه مجرد لفظ تابع لما اشتق منه وليس له معنى وضعي بل هو ـ كبسن ـ في قولك : حسن بسن ، وقرئ «يدخلهم» بالياء عطف على سيدخلهم لا على أنه غير الإدخال الأول بالذات بل بالعنوان كما في قوله تعالى : (وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) [هود : ٥٨].