فيه للتدارك قطعا فإن ما فيه من الضمائر الثلاثة للمشركين فيلزم التفكيك حتما ، وتخصيص كل نفس بالنفوس المشركة مع عموم البلوى للكل يأباه مقام تهويل المقام انتهى ، والظاهر أنه اعتبر عطف (وَضَلَّ عَنْهُمْ) إلخ على (رُدُّوا) مع رجوع ضميره للنفوس وهو غير ما ذكرناه فلا تغفل (قُلْ) أي لأولئك المشركين الذين حكيت أحوالهم وبين ما يؤدي إليه أفعالهم التي هي أفعى لهم احتجاجا على حقية التوحيد وبطلان ما هم عليه من الإشراك.
(مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) أي منهما جميعا فإن الأرزاق تحصل بأسباب سماوية كالمطر وحرارة الشمس المنضجة وغير ذلك ومواد أرضية والأولى بمنزلة الفاعل والثانية بمنزلة القابل أو من كل واحد منهما بالاستقلال كالأمطار والمن والأغذية الأرضية توسعة عليكم ـ فمن ـ على هذا لابتداء الغاية ، وقيل : هي لبيان (مَنْ) على تقدير المضاف ، وقيل : تبعيضية على ذلك التقدير أي من أهل السماء والأرض (أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ) «أم» منقطعة بمعنى بل والإضراب انتقالي لا إبطالي وفيه تنبيه على كفاية هذا الاستفهام فيما هو المقصود أي من يستطيع خلقهما وتسويتهما على هذه الفطرة العجيبة ومن وقف على تشريحهما وقف على ما يبهر العقول أو من يحفظهما من الآفات مع كثرتها وسرعة انفعالهما عن أدنى شيء يصيبهما أو من يتصرف بهما إذهابا وإبقاء ، والملك على كل مجاز ، قيل : والمعنى الأول أوفق لنظم الخالقية مع الرازقية كقوله تعالى : (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) [فاطر : ٣] (وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ) أي ومن ينشئ الحيوان من النطفة مثلا والنطفة من الحيوان أو من يحيي أو يميت بأن يكون المراد بالإخراج التحصيل من قولهم : الخارج كذا أي الحاصل أي من يحصل الحي من الميت بأن يفيض عليه الحياة ويحصل الميت من الحي بأن يفيض عليه الموت ويسلي عنه الحياة والمآل ما علمت ، ومن الناس من فسر الحي والميت هنا بالمؤمن والكافر والأول أولى (وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) أي ومن يلي تدبير أمر العالم جميعا وهو تعميم بعد تخصيص ما اندرج تحته من الأمور الظاهرة بالذكر ، وفيه إشارة إلى أن الكل منه سبحانه وإليه وأنه لا يمكنكم علم تفاصيله (فَسَيَقُولُونَ) بلا تلعثم ولا تأخير (اللهُ) إذ لا مجال للمكابرة والعناد في شيء من ذلك لغاية وضوحه ، والاسم الجليل مبتدأ والخبر محذوف أي الله يفعل ما ذكر من الأفاعيل لا غيره هذا وربما يستدل بالآية على تقدير أن لا تكون (مَنْ) لابتداء الغاية على جواز أن يقال الله سبحانه أنه من أهل السماء والأرض ، وكون المراد هناك غير الله تعالى لا يناسب الجواب ومن لم ير الجواز يعني ومن رآه بناء على ظواهر الآيات المفيدة لكونه تعالى في السماء وقوله صلىاللهعليهوسلم في الجارية التي أشارت إلى السماء حين قيل لها : أين الله؟ «أعتقها فإنها مؤمنة» وإقراره حصينا حين قال له عليه الصلاة والسلام : «كم تعبد يا حصين؟ فقال : سبعة ستة في الأرض وواحد في السماء فقال صلىاللهعليهوسلم : فمن الذي أعددته لرغبتك ورهبتك؟ فقال حصين : الإله الذي في السماء» أبقى الآية على ما يقتضيه ظاهرها. وأنت تعلم إنه لم يرد صريحا كونه تعالى من أهل السماء والأرض وإن ورد كونه جل وعلا في السماء على المعنى اللائق بجلاله جل جلاله فلا أرى جواز ذلك ، ولا داعي لإخراج (مَنْ) عن ابتداء الغاية ليحتاج إلى العناية في رد الاستدلال كما لا يخفى ، وفي الانتصاف أن هذه الآية كافحة لوجوه القدرية الزاعمين أن الأرزاق منقسمة فمنها ما رزقه الله تعالى للعبد وهو الحلال ومنها ما رزقه العبد لنفسه وهو الحرام فهي ناعية عليهم هذا الشرك الخفي لو سمعوا (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ) [يونس : ٤٢] وكذا فيما قيل تكفح في وجوه أناس يزعمون أن الذي يدبر الأمر في كل عصر قطبه وهو عماد السماء عندهم ولولاه لوقعت على الأرض فكأني بك إذا سألتهم من يدبر الأمر يقولون القطب ، وقد يعتذر عنهم بأن مرادهم أنه المدبر بإذن الله تعالى وجاء إطلاق المدبر بهذا المعنى على غيره تعالى في قوله سبحانه : (فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) [النازعات : ٥].