وربما يقال إنه لا فرق عندهم بين الله تعالى وبين القطب إلا بالاعتبار لأنه الذي فاز بقربى النوافل والفرائض على أتم وجه فارتفعت الغيرية ، فالقول بأن القطب هو المدبر كالقول بأنّ الله سبحانه هو المدبر بلا فرق.
واعترض هذا بأنه ذهاب إلى القول بوحدة الوجود وأكثر المتكلمين وبعض الصوفية كالإمام الرباني قدسسره ينكرون ذلك ، والأول بأنه هلا قال المشركون في جواب ذلك : الملائكة أو عيسى عليهمالسلام مثلا على معنى أنهم المدبرون للأمر بإذن الله تعالى فيكون المذكورون عندهم بمنزلة الأقطاب عند أولئك ، وأجيب بأن السؤال إنما هو عمن ينتهي إليه الأمر فلا يتسنى لهم إلا الجواب المذكور ، ولعل غير أهل الوحدة لو سئلوا كذلك ما عدلوا في الجواب عنه سبحانه ، وأما أهل الوحدة قدس الله تعالى أسرارهم فلهم كلمات لا يقولها المشركون وهي لعمري فوق طور العقل ولذا أنكرها أهل الظاهر عليهم (فَقُلْ) لهم (أَفَلا تَتَّقُونَ) الهمزة لإنكار عدم الاتقاء بمعنى إنكار الواقع كما في قولك : أتضرب أباك لا بمعنى إنكار الوقوع كما في قولك : أأضرب أبي ، والفاء للعطف على مقدر ينسحب عليه النظم الكريم أي أتعلمون ذلك فلا تتقون ، والخلاف في مثل هذا التركيب شهير وما ذكرناه هو ما عليه البعض ، ومفعول (تَتَّقُونَ) محذوف وهو متعد لواحد أي أفلا تتقون عذابه الذي لكم بما تتعاطونه من إشراككم به سبحانه ما لا يشاركه في شيء مما ذكر من خواص الألوهية ، وكلام القاضي يوهم أنه متعد إلى مفعولين وليس بذاك.
(فَذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُ) فذلكة لما تقرر والإشارة إلى المتصف بالصفات السابقة حسبما اعترفوا به ، وهي مبتدأ والاسم الجليل صفة له و (رَبُّكُمُ) خبر و (الْحَقُ) خبر بعد خبر أو صفة أو خبر مبتدأ محذوف ، ويجوز أن يكون الاسم الجليل هو الخبر و (رَبُّكُمُ) بدل منه أو بيان له و (الْحَقُ) صفة الرب أي مالككم ومتولي أموركم الثابت ربوبيته والمتحقق ألوهيته تحققا لا ريب فيه (فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ) أي لا يوجد غير الحق شيء يتبع إلا الضلال فمن تخطى الحق وهو عبادة الله تعالى وحده لا بد وأن يقع في الضلال وهو عبادة غيره سبحانه على الانفراد أو الاشتراك لأن عبادته جل شأنه مع الاشتراك لا يعتد بها ـ فما ـ اسم استفهام و ـ ذا ـ موصول ، ويجوز أن يكون الكل اسما واحدا قد غلب فيه الاستفهام على اسم الإشارة ، وهو مبتدأ خبره (بَعْدَ الْحَقِ) على ما في النهر والاستفهام إنكاري بمعنى إنكار الوقوع ونفيه ، و (بَعْدَ) بمعنى غير مجاز والحق ما علمت ، وهو غير الأول ولذا أظهر ، وإطلاق ـ الحق ـ على عبادته سبحانه وكذا إطلاق ـ الضلال ـ على عبادة غيره تعالى لما أن المدار في العبادة الاعتقاد ، وجوز أن يكون ـ الحق ـ عبارة عن الأول والإظهار لزيادة التقرير ومراعاة كمال المقابلة بينه وبين الضلال والمراد به هو الأصنام ، والمعنى فما ذا بعد الرب الحق الثابت ربوبيته إلا الضلال أي الباطل الضائع المضمحل وإنما سمي بالمصدر مبالغة كأنه نفس الضلال والضياع ، وقيل : المراد بالحق والضلال ما يعم التوحيد وعبادة غيره سبحانه وغير ذلك ويدخل ما يقتضيه المقام هنا دخولا أوليا ، ويؤيده ما أخرجه ابن أبي حاتم عن أشهب قال : سئل مالك عن شهادة اللعّاب بالشطرنج والنرد فقال أما من أدمن فما أرى شهادتهم طائلة يقول الله تعالى : (فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ) فهذا كله من الضلال.
(فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) أي فكيف تصرفون عن الحق إلى الضلال والاستفهام إنكاري بمعنى إنكار الواقع واستبعاده والتعجب منه ، وفيه من المبالغة ما ليس في توجيه الإنكار إلى نفس الفعل فإنه لا بد لكل موجود من أن يكون وجوده على حال من الأحوال فإذا انتفى جميع أحوال وجوده فقد انتفى وجوده على الطريق البرهاني والفاء لترتيب الإنكار والتعجب على ما قبله ، ولعل ذلك الإنكار والتعجب متوجهان في الحقيقة إلى منشأ الصرف وإلا فنفس الصرف منه تعالى على ما هو الحق فلا معنى لإنكاره والتعجب منه مع كونه فعله جل شأنه ، وإنما لم يسند الفعل إلى الفاعل لعدم