وقد يقدر حلها إلى نكرة فيكون ذلك نكرة ، ولعل أبا علي يتكلف لاعتبار حلها إلى نكرة ويكون الموصوف هنا نكرة عنده فيرتفع محذور نعت المعرفة بالنكرة. وأنت تعلم أن الجواب إنما يدفع البطلان لا غير فالحق ترجيح الحالية ، وقوله سبحانه : (يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ) أي يعرف بعضهم بعضا كأنهم لم يتفارقوا إلا قليلا يحتمل أن يكون استئنافا وأن يكون بيانا للجملة التشبيهية واستدلالا عليها كما قيل ، وذلك أنه لو طال العهد لم يبق التعارف لأن طول العهد منس مفض إلى التناكر لكن التعارف باق فطول العهد منتف وهو معنى (لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً) وفيه دغدغة.
وزعم أبو البقاء كونه حالا مقدرة ولا داعي لاعتبار كونها مقدرة لأن الظاهر عدم تأخر التعارف عن الحشر بزمان طويل ليحتاج إليه ، وقد صرحوا بأن التعارف بينهم يكون أول خروجهم من القبور ثم ينقطع لشدة الأهوال المذهلة واعتراء الأحوال المعضلة المغيرة للصور والأشكال المبدلة لها من حال إلى حال ، وعندي أن لا قطع بالانقطاع فالمواقف مختلفة والأحوال متفاوتة فقد يتعارفون بعد التناكر في موقف دون موقف وحال دون حال ، وفي بعض الآثار ما يؤيد ذلك. وزعم بعضهم المنافاة بين ما تدل عليه هذه الآية وما يدل عليه قوله سبحانه : (فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) [المؤمنون : ١٠١] وقوله تعالى : (وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً) [المعارج : ١٠] من عدم التعارف لو لا اعتبار الزمانين.
وقيل : لا منافاة بناء على أن المثبت تعارف تقريع وتوبيخ والمنفي تعارف تواصل وشفقة ، ولمانع أن يمنع دلالة ما ذكر من الآيات على نفي التعارف ، وقصارى ما يدل عليه نفي نفع الأنساب وسؤال بعضهم بعضا ، والتعارف الذي تدل عليه هذه الآية لا ينافي ذلك ، فقد أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الحسن أنه قال فيها : يعرف الرجل صاحبه إلى جنبه فلا يستطيع أن يكلمه ثم إن حمل التعارف على معرفة بعضهم بعضا هو المعروف عند المفسرين ، وقيل : المراد به التعريف أي يعرف بعضهم بعضا ما كانوا عليه من الخطأ والكفر وفيه ما فيه.
وجوز بعضهم أن يكون الظرف السابق متعلقا ـ بيتعارفون ـ قيل فيعطف على ما سبق ولا يظهر له وجه وقوله تعالى : (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ) جملة مستأنفة سيقت للشهادة منه تعالى على خسرانهم والتعجيب منه وهي خبرية لفظا إنشائية معنى ، وقيل : مقول لقول مقدر وقع حالا من ضمير (يَتَعارَفُونَ) أو من ضمير (يَحْشُرُهُمْ) إن كانت جملة (يَتَعارَفُونَ) حالا أيضا لئلا يفصل بين الحال وذيها أجنبي والاستئناف أظهر ، والتعبير عنهم بالموصول مع أن المقام مقام إضمار لذمهم بما في حيز الصلة وللإشعار بعليته لما أصابهم ، والظاهر أن المراد بلقاء الله تعالى مطلق الحساب والجزاء وبالخسران الوضيعة أي قد وضعوا في تجارتهم ومعاملتهم واشترائهم الكفر بالإيمان ، وجوز أن يراد بالأول سوء اللقاء وبالثاني الهلاك والضلال ، أي قد ضلوا وهلكوا بتكذيبهم بذلك (وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) أي لطرق التجارة عارفين بأحوالها أو ما كانوا مهتدين إلى طريق النجاة ، والجملة عطف على جملة (قَدْ خَسِرَ) إلخ ، وجوز أن تكون معطوفة على صلة الموصول على أنها كالتأكيد لها (وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ) أصله إن نرينك وما مزيد لتأكيد معنى الشرط ومن تمت أكد الفعل بالنون والرؤية بصرية أي إما نرينك بعينك (بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ) من العذاب بأن نعذبهم في حياتك (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) قبل ذلك (فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ) جواب للشرط وما عطف عليه. والمعنى إن عذابهم في الآخرة مقرر عذبوا في الدنيا أو لا ، وقيل : هو جواب (نَتَوَفَّيَنَّكَ) كأنه قيل : إما نتوفينك فإلينا مرجعهم فنريكه في الآخرة وجواب محذوف أي إما نرينك فذاك المراد أو المتمنى أو نحو ذلك ، وقال الطيبي : أي فذاك حق وصواب أو واقع أو ثابت واختار الأول أبو حيان ، والاعتراض عليه بأن الرجوع لا يترتب على تلك الإراءة فيحتاج إلى التزام كون الشرطية اتفاقية ناشئ من الغفلة عن المعنى المراد ، والمراد من (نَعِدُهُمْ) وعدناهم إلا أنه عدل إلى صيغة