وارتقوا إلى درجات الجنان. قال بعض المحققين : إن في ذلك إشارة إلى أن للنفس الإنسانية مراتب كمال من تمسك بالقرآن فاز بها. أحدها تهذيب الظاهر عن فعل ما لا ينبغي وإليه الإشارة «بالموعظة» بناء على أن فيها الزجر عن المعاصي وثانيها تهذيب الباطن عن العقائد الفاسدة والملكات الردية وإليه الإشارة ب (شِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ) وثالثها تحلي النفس بالعقائد الحقة والأخلاق الفاضلة ولا يحصل ذلك إلا بالهدى. ورابعها تجلي أنوار الرحمة الإلهية وتختص بالنفوس الكاملة المستعدة بما حصل لها من الكمال الظاهر والباطن لذلك. وقال الإمام : الموعظة إشارة إلى تطهر ظواهر الخلق عما لا ينبغي وهو الشريعة ، والشفاء إلى تطهر الأرواح عن العقائد الفاسدة والأخلاق الذميمة وهو الطريقة ، والهدى إلى ظهور الحق في قلوب الصديقين وهو الحقيقة ، والرحمة إلى بلوغ الكمال والإشراق حتى يكمل غيره ويفيض عليه وهو النبوة والخلافة فهذه درجات لا يمكن فيها تقديم ولا تأخير ، ولا يخفى أن هذا خلاف الظاهر جدا والذي يقتضيه الظاهر كون المذكورات أوصافا للقرآن باعتبار كونه سببا وآلة لها ، وجعلت عينه مبالغة وبينها تلازم في الجملة ، والتنكير فيها للتفخيم ، والهداية إن أخذت بمعنى الدلالة مطلقا فعامة أو بمعنى الدلالة الموصولة فخاصة وحينئذ يكون (لِلْمُؤْمِنِينَ) قيد الأمرين ، ويؤيد تقييد الهدى بذلك قوله سبحانه : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة : ٢] فالقرآن واعظ بما فيه من الترهيب والترغيب أو بما فيه من الزجر عن المعاصي كيفما كانت المقترن بالتخويف فقط بناء على التفسير الثاني للموعظة ، وشاف لما في الصدور من الأدواء المفضية إلى الهلاك كالجهل والشك والشرك والنفاق وغيرها ، ومرشد ببيان ما يليق وما لا يليق إلى ما فيه النجاة والفوز بالنعيم الدائم أو موصول إلى ذلك ، وسبب الرحمة للمؤمنين الذين آمنوا به وامتثلوا ما فيه من الأحكام ، وأما إذا ارتكب خلاف الظاهر فيقال غير ما قيل أيضا مما ستراه إن شاء الله تعالى في باب الإشارة. واستدل كما قال الجلال السيوطي بالآية على أن القرآن يشفي من الأمراض البدنية كما يشفي من الأمراض القلبية فقد أخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال : «جاء رجل إلى النبي صلىاللهعليهوسلم فقال : إني أشتكي صدري فقال عليه الصلاة والسلام : «اقرأ القرآن يقول الله تعالى شفاء لما في الصدور» وأخرج البيهقي في الشعب عن واثلة بن الأسقع أن رجلا شكا إلى النبي صلىاللهعليهوسلم وجع حلقه فقال : «عليك بقراءة القرآن» وأنت تعلم أن الاستدلال بها على ذلك مما لا يكاد يسلم ، والخبر الثاني لا يدل عليه إذ ليس فيه أكثر من أمره صلىاللهعليهوسلم الشاكي بقراءة القرآن إرشادا له إلى ما ينفعه ويزول به وجعه ونحن لا ننكر أن لقراءة القرآن بركة قد يذهب الله تعالى بسببها الأمراض والأوجاع وإنما ننكر الاستدلال بالآية على ذلك ؛ والخبر الأول وإن كان ظاهرا في المقصود لكن ينبغي تأويله كأن يقال : لعله صلىاللهعليهوسلم اطلع على أن في صدر الرجل مرضا معنويا قلبيا قد صار سببا للمرض الحسي البدني فأمره عليه الصلاة والسلام بقراءة القرآن ليزول عنه الأول فيزول الثاني ، ولا يستبعد كون بعض الأمراض القلبية قد يكون سببا لبعض الأمراض القالبية فإنا نرى أن نحو الحسد والحقد قد يكون سببا لذلك ، ومن كلامهم : لله تعالى در الحسد ما أعدله بدأ بصاحبه فقتله : وهذا أولى من إخراج الكلام مخرج الأسلوب الحكيم.
والحسن البصري ينكر كون القرآن شفاء للأمراض ، فقد أخرج أبو الشيخ عنه ، أنه قال : إنّ الله تعالى جعل القرآن شفاء لما في الصدور ولم يجعله شفاء لأمراضكم ، والحق ما ذكرنا (قُلْ) تلوين للخطاب وتوجيه له إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ليأمر الناس بأن يغتنموا ما في القرآن العظيم من الفضل والرحمة أي قل لهم (بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ) متعلق بمحذوف ، وأصل الكلام ليفرحوا بفضل الله تعالى وبرحمته ثم قدم الجار والمجرور على الفعل لإفادة اختصاصه بالمجرور ثم أدخل عليه الفاء لإفادة معنى السببية فصار بفضل الله وبرحمته فليفرحوا ثم جيء بقوله سبحانه : (فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا) للتأكيد والتقرير ثم حذف الفعل الأول لدلالة الثاني عليه ، والفاء الأولى قيل جزائية والثانية زائدة للتأكيد ،