الرحمة وهو ظاهر في أنه ليس المراد بها الرحمة الدنيوية لأن المغفرة لا تترب عليها وإنما يترتب عليها النجاة.
وقال بعض المحققين : إنما فعل جبريل عليهالسلام ما فعل غضبا عليه لما صدر منه وخوفا أنه إذا كرر ذلك ربما قبل منه على سبيل خرق العادة لسعة بحر الرحمة الذي يستغرق كل شيء ، وأما الرضا بالكفر فالحق أنه ليس بكفر مطلقا بل إذا استحسن وإنما الكفر رضاه بكفر نفسه كما في التأويلات لعلم الهدى انتهى ، وقد تقدم آنفا ما يتعلق بهذه المسألة فتذكره فما في العهد من قدم ، نعم قيل : إن الرضا بكفر نفسه إنما يكون وهو كافر فلا معنى لعده كفرا والكفر حاصل قبله ، وهو على ما له وما عليه بحث آخر لا يضر فيما نحن فيه.
والطيبي بعد أن أجاب بما أجاب أردف ذلك بقوله : على أنه ليس للعقل مجال في مثل هذا النقل الصحيح إلا التسليم ونسبة القصور إلى النفس ، وقد يقال : إن الخبر متى خالف صريح العقل أو تضمن نسبة ما لا يتصور شرعا في حق شخص إليه ولم يمكن تأويله على وجه يوافق حكم العقل ويندفع به نسبة النقص لا يكون صحيحا ، واتهام الراوي بما يوهن أمر روايته أهون من اتهام العقل الصريح ونسبة النقص إليه دون نسبة النقص إلى من شهد الله تعالى ورسوله صلىاللهعليهوسلم بعصمته وكماله فتأمل والله تعالى الموفق ، وقوله سبحانه : (وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ) في موضع الحال من فاعل الفعل العامل في الظرف جيء به لتشديد التوبيخ والتقريع على تأخير الإيمان إلى هذا الآن ببيان أنه لم يكن تأخيره لما عسى يعد عذرا بل كان ذلك على طريقة الرد والاستعصاء والإفساد فإن قوله تعالى : (وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) عطف على (عَصَيْتَ) داخل في حيز الحال والتحقيق أي وقد كنت من المفسدين الغالين في الضلال والإضلال عن الإيمان فهذا عبارة عن فساده الراجح إلى نفسه والساري إلى غيره من الظلم والتعدي وصد بني إسرائيل عن السبيل والأول عن عصيانه الخاص به ، وقوله جل شأنه : (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ) تهكم به وتخييب له وحسم لأطماعه بالمرة ، والمراد فاليوم نخرجك مما وقع فيه قومك من قعر البحر ونجعلك طافيا ملابسا ببدنك عاريا عن الروح إلا أنه عبر عن ذلك بالتنجية مجازا ، وجعل الجار والمجرور في موضع الحال من ضمير المخاطب لذلك مع ما فيه من التلويح بأن مراده بالإيمان هو النجاة ، وقيل : معنى الحال عاريا عن اللباس أو تام الأعضاء كاملها.
وجعل بعض الأفاضل الكلام على التجريد ، وجوز أن يكون الباء زائدة ـ وبدنك ـ بدل بعض من ضمير المخاطب كأنه قيل : ننجي بدنك ، وجعل الباء للآلة ليكون على وزن قولك ـ أخذته بيدك ـ ونظرته بعينك ـ إيذانا بحصول هذا المطلوب البعيد التناول وجه لكنه غير وجيه كما لا يخفى ، وقيل : التنجية الإلقاء على النجوة وهي المكان المرتفع ، قيل : وسمي به لنجاته عن السيل ، وإلى هذا ذهب يونس بن حبيب النحوي ، فقد أخرج ابن الأنباري. وأبو الشيخ عنه أنه قال : المعنى نجعلك على نجوة من الأرض كي يراك بنو إسرائيل فيعرفوا أنك قد مت ، وجاء تفسير البدن بالدرع ، وروي ذلك عن محمد بن كعب وأبي ، وكانت له درع من ذهب يعرف بها ، وفي رواية أنها كانت من لؤلؤ.
وأخرج ابن أبي حاتم. وأبو الشيخ عن أبي جهضم موسى بن سالم أنه كان لفرعون شيء يلبسه يقال له البدن يتلألأ ، وقرأ يعقوب «ننجيك» من باب الافعال وهو بمعنى التفعيل بمعنييه السابقين ، وأخرج ابن الأنباري عن محمد بن السميفع اليماني ، ويزيد البربري أنهما قرءا «ننحيك» بالحاء المهملة ونسبت إلى أبي بن كعب ، وأبي السمال أي نجعلك في ناحية ونلقيك على الساحل. وقرأ أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه «بأبدانك» على صيغة الجمع بجعل كل عضو بمنزلة البدن فأطلق الكل على الجزء مجازا وعلى هذا جمع الإجرام في قوله :
وكم موطن لولاي طحت كما هوى |
|
بإجرامه من قلة النيق منهوي |