أو بإرادة دروعك بناء على أن المخذول كان لابسا درعا على درع. وأخرج ابن الأنباري عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قرأ «بندائك» أي بدعائك (لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً) أي لتكون لمن يأتي بعدك من الأمم إذا سمعوا حال أمرك ممن شاهد حالك وما عراك عبرة ونكالا من الطغيان أو حجة تدلهم على أن الإنسان وإن بلغ الغاية القصوى من عظم الشأن وعلو الكبرياء وقوة السلطان فهو مملوك مقهور بعيد عن مظان الألوهية والربوبية ، وقيل : المراد بمن خلفه من بقي بعده من بني إسرائيل أي لتكون لهم علامة على صدق موسى عليهالسلام إذا كان في نفوسهم من عظمته ما خيل إليه أنه لا يهلك فكذبوا لذلك خبر موسى عليهالسلام بهلاكه حتى عاينوه على ممرهم من الساحل أحمر قصيرا كأنه ثور وروي هذا عن مجاهد. وقرئ «لمن خلفك» فعلا ماضيا أي حل مكانك ، ونسب إلى ابن السميقع ، وأبي السمال أنهما أيضا قرءا «لمن خلقك» بفتح اللام والقاف أي لتكون لخالقك آية كسائر الآيات فإن إفراده سبحانه إياك بالإلقاء إلى الساحل دليل على أنه قصد منه جل شأنه لكشف تزويرك وإماطة الشبهات في أمرك وبرهان نير على كمال علمه وقدرته وحكمته وإرادته وهو معنى لا بأس به يصح أن توجه به الآية على القراءة المشهورة أيضا. ذكر في النشر أن مما لا يوثق بنقله قراءة ابن السميقع ، وأبي السمال «ننحيك» بالحاء و «لمن خلقك» بالقاف ، وفي تعليل تنجيته بما ذكر كما قاله بعض المحققين إيذان بأنها ليست لإعزازة أو لفائدة أخرى عائدة إليه بل لكمال الاستهانة به وتفضيحه على رءوس الأشهاد وزيادة تفظيع حاله كمن يقتل ثم يجر جسده في الأسواق ويطرح جيفة في الميدان أو يدار برأسه في النواحي والبلدان ، واللام الأولى متعلقة بالفعل قبلها والثانية بمحذوف وقع حالا من «آية» أي كائنة لمن خلقك ، وجاد الرد على هذا المخذول على طرز ما أتى به في قوله : (آمَنْتُ أَنَّهُ) إلخ في اشتماله على المبالغة كما لا يخفى على من تفكر في الآية ، وقد قرر فحوى المحكي بقوله سبحانه : (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ) أي لا يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها ، وهو اعتراض تذييلي جيء به عند الحكاية لذلك ، ولهذه الآية وأشباهها وقع الإجماع على كفر المخذول وعدم قبول إيمانه ، ويشهد لذلك أيضا ما رواه ابن عدي ، والطبراني من أنه صلىاللهعليهوسلم قال : «خلق الله تعالى يحيى بن زكريا في بطن أمه مؤمنا وخلق فرعون في بطن أمه كافرا» فهو من أهل النار المخلدين فيها بلا ريب وبذلك قال الشيخ الأكبر قدسسره في أول كتابه الفتوحات في الباب الثاني والستين منه حيث ذكر أن الذين خذلهم الله تعالى من العباد جعلهم طائفتين ، طائفة لا تضرهم الذنوب التي وقعت منهم وإليهم الإشارة بقوله تعالى : (وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً) [البقرة : ٢٦٨] وهؤلاء لا تمسهم النار بما تاب الله تعالى عليهم واستغفار الملأ الأعلى ودعائهم لهم.
وقسم الطائفة الأخرى إلى قسمين قسم أخرجهم من النار بالشفاعة هم طائفة من المؤمنين وأهل التوحيد ماتوا ولم تكفر عنهم خطاياهم ، وقسم آخر أبقاهم في النار وهم المجرمون خاصة الذين يقال لهم يوم القيامة : (وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) [يس : ٥٩] ولهم يقال : أهل النار لأنهم الذين يعمرونها ، وهم على أربع طوائف كلهم في النار لا يخرجون منها. الطائفة الأولى المتكبرون على الله تعالى كفرعون وأشباهه ممن ادعى الربوبية لنفسه ونفاها عن الله تعالى فقال : (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) [القصص : ٣٨] وقال : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) [النازعات : ٢٤] يريد به ما في السماء غيري وكذلك نمرود وغيره.
والثانية المشركون وهم الذين أثبتوا الله تعالى إلا أنهم جعلوا معه آلهة أخرى وقالوا : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣] والثالثة المعطلة وهم الذين نفوا الإله جملة واحدة فلم يثبتوا للعالم إلها أصلا. والرابعة المنافقون وهم الذين أظهروا الإيمان للقهر الذي حكم عليهم وهم في نفوسهم على ما هم عليه من اعتقاد إحدى هذه