مخالفة ما أمر به وفظاعة ارتكاب ما نهي عنه (أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ) يعطفون (صُدُورَهُمْ) على ما فيها من الصفات المذمومة (لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ) تعالى وذلك لمزيد جهلهم بما يجوز عليه جل شأنه وما لا يجوز (أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) من الأقوال والأفعال وسائر الأحوال ، وقيل : (ما يُسِرُّونَ) من الخطرات (وَما يُعْلِنُونَ) من النظرات ، وقيل : (ما يُسِرُّونَ) بقلوبهم (وَما يُعْلِنُونَ) بأفواههم ، وقيل : (ما يُسِرُّونَ) بالليل (وَما يُعْلِنُونَ) بالنهار ، والتعميم أولى ومن الناس من جعل ضمير منه للرسول صلىاللهعليهوسلم وقد علمت أنه يبعده ظهور أن ضمير (يَعْلَمُ) له تعالى لكن ذكر في أسرار القرآن أنه تعالى كسا أنوار جلاله أفئدة الصديقين فيرون بأبصار قلوبهم ما يجري في صدور الخلائق من المضمرات والخطرات كما يرون الظواهر بالعيون الظاهرة ، وقد جاء «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله تعالى» وعلى هذا فيمكن أن يكون ضمير (يَعْلَمُ) للرسول عليه الصلاة والسلام ، وأيّا ما كان فالآية نازلة في غير المؤمنين حسبما يقتضيه الظاهر ، وقد تقدم لك أن الأمر على ما روي عن الحبر رضي الله تعالى عنه مشكل.
وقال بعض أرباب الذوق : إن الآية عليه إشارة إلى أن أولئك الأناس لم يصلوا إلى مقام الجمع ولم يتحققوا بأعلى مراتب التوحيد وفيه خفاء أيضا فتفطن (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها) أي ما تتغذى به شبحا وروحا ، ويقال : لكل رزق عليه تعالى بقدر حوصلته فرزق الظاهر للأشباح ، ورزق المشاهدة للأرواح ، ورزق الوصلة للأسرار ؛ ورزق الرهبة للنفوس ، ورزق الرغبة للعقول ، ورزق القربة للقلوب ، وهذا بالنظر إلى الإنسان ، وأما بالنظر إلى سائر الحيوانات فلها أيضا رزق محسوس ، ورزق معقول يعلمه الله تعالى (وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها) فمستقر الجميع أصلاب العدم (وَمُسْتَوْدَعَها) أرحام الحدوث (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) وما في كل (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) أي كان حيا قيوما ـ كما قال ابن الكمال ..
وقيل : الماء إشارة إلى المادة الهيولانية ، والمعنى (وَكانَ عَرْشُهُ) قبل خلق السماوات والأرض بالذات لا بالزمان مستعليا على المادة فوقها بالرتبة ، وقيل : غير ذلك ، وإن شئت التطبيق على ما في تفاصيل وجودك فالمعنى على ما قيل : خلق سماوات قوى الروحانية ، وأرض الجسد في الأشهر الستة التي هي أقل مدة الحمل ، وكان عرشه الذي هو قلب المؤمن على ماء مادة الجسد مستوليا عليه متعلقا به تعلق التصوير والتدبير (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) قيل : جعل غاية الخلق ظهور الأعمال أي خلقنا ذلك لنعلم العلم التفصيلي التابع للوجود الذي يترتب عليه الجزاء (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً) إلخ تضمن الإشارة إلى أنه ينبغي للعبد أن يكون في السراء والضراء واثقا بربه تعالى متوكلا عليه غير محتجب عنه برؤية الأسباب لئلا يحصل له اليأس والكفران والبطر والفخر بذلك وجودا وعدما. فإن آتاه رحمة شكره أولا برؤية ذلك منه جل شأنه بقلبه ، وثانيا باستعمال جوارحه في مراضيه وطاعاته والقيام بحقوقه تعالى فيها ، وثالثا بإطلاق لسانه بالحمد والثناء على الله تعالى وبذلك يتحقق الشكر المشار إليه بقوله تعالى : (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) [سبأ : ١٣] وإلى ذلك أشار من قال :
أفادتكم النعماء مني ثلاثة |
|
يدي ولساني والضمير المحجبا |
وبالشكر تزداد النعم كما قال تعالى : (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) [إبراهيم : ٧] ، وعن علي كرم الله تعالى وجهه إذا وصلت إليكم أطراف النعم فلا تنفروا أقصاها بقلة الشكر ، ثم إن نزعها منه فليصبر ولا يتهم الله تعالى بشيء فإنه تعالى أبر بالعبد وأرحم وأخبر بمصلحته وأعلم ، ثم إذا أعادها عليه لا ينبغي أن يبطر ويغتر ويفتخر بها على الناس فإن الاغترار والافتخار بما لا يملكه من الجهل بمكان ، وقد أفاد سبحانه أن من سجايا الإنسان في الشدة بعد الرحمة اليأس