(لا) ، وقيل : إن (جَرَمَ) بمعنى باطل إما على أنه موضوع له ، وإما أنه بمعنى كسب والباطل محتاج له ، ومن هنا يفسر (لا جَرَمَ) بمعنى حقا لأن الحق نقيض الباطل ، وصار لا باطل يمينا كلا كذب في قول النبي صلىاللهعليهوسلم : «أنا النبي لا كذب» وفي القاموس أنه يقال : (لا جَرَمَ) ولا ذا جرم ولا أن ذا جرم ولا عن ذا جرم ولا جرم ككرم ، و (لا جَرَمَ) بالضم أي لا بد أو حقا أو لا محالة وهذا أصله ثم كثر حتى تحول إلى معنى القسم فلذلك يجاب عنه باللام ، فيقال : (لا جَرَمَ) لآتينك انتهى ، وفيه مخالفة لما نقله السيرافي عن الزجاج ، وما ذكره من (لا جَرَمَ) ككرم رواه بعضهم عن أبي عمرو في الآية ، ومن لا ذا جرم حكاه الفراء عن بني عامر ، وحكي أيضا (لا جَرَمَ) بالضم عن أناس من العرب ، ولكن قال الشهاب : إن في ثبوت هذه اللغة في فصيح كلامهم ترددا ، وجرم فيها يحتمل أن يكون اسما وأن يكون فعلا مجهولا سكن للتخفيف ، وحكى بعضهم لا ذو جرم ولا عن جرم ولا جر بحذف الميم لكثرة الاستعمال كما حذفت الفاء من سوف لذلك في قولهم: سو ترى.
والظاهر أن المقحمات بين (لا) و (جَرَمَ) زائدة ، وإليه يشير كلام بعضهم ، وحكي بغير لا جرم أنك أنت فعلت ذاك ، ولعل المراد أن كونك الفاعل لا يحتاج إلى أن يقال فيه لا جرم فليراجع ذاك والله تعالى يتولى هداك.
ثم إنه تعالى لما ذكر طريق الكفار وأعمالهم وبين مصيرهم وما لهم شرع في شرح حال أضدادهم وهم المؤمنون وبيان ما لهم من العواقب الحميدة تكملة لما سلف من محاسن المؤمنين المذكورة عند جمع في قوله سبحانه : (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) الآية ليتبين ما بينهما من التباين البين حالا ومآلا فقال عزّ من قائل :
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) أي صدقوا بكل ما يجب التصديق به من القرآن وغيره ولا يكون ذلك إلا باستماع الحق ومشاهدة الآيات الآفاقية والأنفسية والتدبر فيها ، أو المعنى فعلوا الإيمان واتصفوا به كما في فلان يعطي ويمنع (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي الأعمال الصالحات ولعل المراد بها ما يشمل الترغيب في سلوك سبيل الله عزوجل ونحوه مما على ضده فريق الكفار (وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ) أي اطمأنوا إليه سبحانه وخشعوا له ، وأصل الإخبات نزول الخبت وهو المنخفض من الأرض ، ثم أطلق على اطمئنان النفس والخشوع تشبيها للمعقول بالمحسوس ثم صار حقيقة فيه ، ومنه الخبيت بالتاء المثناة للدنيء ، وقيل : إن التاء بدل من الثاء المثلثة (أُولئِكَ) المنعوتون بتلك النعوت الجليلة الشأن (أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) دائمون أبدا وليس المراد حصر الخلود فيها لأن العصاة من المؤمنين يدخلون الجنة عند أهل الحق ويخلدون فيها ، ولعل من يدعي ذلك يريد بنفي الخلود عن العصاة نقصه من أوله كما قيل به فيما ستسمعه إن شاء الله تعالى (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ) المذكورين من المؤمنين والكفار أي حالهما العجيب ، وأصل المثل كالمثل النظير ؛ ثم استعير لقول شبه مضربه بمورده ولا يكون إلا لما فيه غرابة وصار في ذلك حقيقة عرفية ، ومن هنا يستعار للقصة والحال والصفة العجيبة.
(كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ) أي كحال من جمع بين العمى والصمم ، ومن جمع بين البصر والسمع فهناك تشبيهان : الأول تشبيه حال الكفرة الموصوفين بالتعامي والتصام عن آيات الله تعالى بحال من خلق أعمى أصم لا تنفعه عبارة ولا إشارة ، والثاني تشبيه حال الذين آمنوا وعملوا الصالحات فانتفعوا بأسماعهم وأبصارهم اهتداء إلى الجنة وانكفاء عما كانوا خابطين فيه من ضلال الكفر والدجنة بحال من هو بصير سميع يستضيء بالأنوار في الظلام ويستفيء بمغانم الإنذار والإبشار فوزا بالمرام ، والعطف لتنزيل تغاير الصفات منزلة تغاير الذوات كما في قوله :
يا لهف زيابة للحرث الص |
|
ابح فالغانم فالآئب |
ويحتمل أن يكون هناك أربع تشبيهات بأن يعتبر تشبيه حال كل من الفريقين الفريق الكافر والفريق المؤمن بحال