وقد أخرج أبو الشيخ عن السدي أنه فسر الخير بالإيمان أي ـ لا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله إيمانا ـ واستشكل بأن الظاهر أن المراد بالموصول أولئك المتبعون المسترذلون وهم مؤمنون عندهم فلا معنى لنفي القول بإيتاء الله تعالى إياهم الإيمان مساعدة لهم ونزولا على هواهم.
وأجيب بأن المراد من هذا الإيمان هو المعتد به الذي لا يزول أصلا كما ينبئ عن ذلك التعبير عنه بالخير وهم إنما أثبتوا لهم الاتباع بادي الرأي وأرادوا بذلك أنهم آمنوا إيمانا لا ثبات له ، ويجعل ذلك ردا لذلك القول ، ويراد من (لَنْ يُؤْتِيَهُمُ) ما آتاهم فكأنهم قالوا : إنهم اتبعوك وآمنوا بك بلا تأمل ومثل ذلك الإيمان في معرض الزوال ، فهم لا يثبتون عليه ويرتدون فرد عليهم عليهالسلام بأني لا أحكم على أولئك بأن الله تعالى ما آتاهم إيمانا لا يزول وأنهم سيرتدون كما زعمتم ويكون قوله عليهالسلام : (اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ) تفويضا للحكم بذلك إليه تعالى ؛ أو إشارة إلى جلالة ما آتاهم الله تعالى إياه من الإيمان كما يقال الله تعالى أعلم بما يقاسي زيد من عمرو وإذا كان ما يقاسيه منه أمرا عظيما لا يستطاع شرحه ، فكأنه قيل : إن إيمانهم عظيم القدر جليل الشأن فكيف أقول لن يؤتيهم الله تعالى إيمانا ثابتا ، وفيه من التكلف والتعسف ما الله تعالى به أعلم ، وحمل الموصول على أناس مسترذلين جدا غير أولئك ولم يؤمنوا بعد أي لا أقول للذين تزدريهم أعينكم ولم يؤمنوا بعد لن يوفقهم الله تعالى للإيمان حيث كانوا في غاية من رثاثة الحال والدناءة التي تزعمونها مانعة من الخير (اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ) مما يتأهلون به لإفاضة التوفيق عليهم وهو المدار لذلك لا الأحوال الظاهرة مما لا أقول به (إِنِّي إِذاً) أي إذا قلت ذلك (لَمِنَ الظَّالِمِينَ) لهم بحط مرتبتهم ونقص حقوقهم ، أو من الظالمين لأنفسهم بذلك ، وفيه تعريض بأنهم ظالمون في ازدرائهم واسترذالهم.
ويجوز أن يكون إذا قلت شيئا مما ذكر من حيازة الخزائن وادعاء علم الغيب والملكية ، ونفي إيتاء الله تعالى أولئك الخير والقوم لمزيد جهلهم محتاجون لأن يعلل لهم نحو الأقوال الأول بلزوم الانتظام في زمرة الظالمين.
(قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا) أي خاصمتنا ونازعتنا ، وأصله من جدلت الحبل أي أحكمت فتله ومنه الجديل وجدلت البناء أحكمته ، ودرع مجدولة ، والأجدل الصقر المحكم البنية ، والمجدل القصر المحكم البناء ، وسميت المنازعة جدالا لأن المتجادلين كأنهما يفتل كل واحد منهما الآخر عن رأيه ، وقيل : الأصل في الجدال الصراع وإسقاط الإنسان صاحبه على الجدالة ، وهي الأرض الصلبة (فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا) عطف على ما قبله على معنى شرعت في جدالنا فأطلته أو أتيت بنوع من أنواع الجدال فأعقبته بأنواع أخر فالفاء على ظاهرها ، ولا حاجة إلى تأويل (جادَلْتَنا) بأردت جدالنا ـ كما قاله الجمهور ـ في قوله تعالى : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) [النحل : ٩٨] ونظير ذلك جادل فلان فأكثر ، وجعل بعضهم مجموع ذلك كناية عن التمادي والاستمرار.
وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما جدلنا ، وهو ـ كما قال ابن جني ـ اسم بمعنى الجدال ولما حجهم عليهالسلام وأبرز لهم ما ألقمهم به الحجر ضاقت عليهم الحيل وعيت بهم العلل. وقالوا : (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا) من العذاب المعجل ، وجوز أن يكون المراد به العذاب الذي أشير إليه في قوله : (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ) بناء على أن لا يكون المراد باليوم يوم القيامة ، و «ما» موصولة والعائد محذوف أي بالذي تعدنا به ، وفي البحر تعدناه ، وجوز أن تكون مصدرية وفيه نوع تكلف (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) في حكمك بلحوق العذاب إن لم نؤمن بك.
(قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شاءَ) أي إن ذلك ليس إلي ولا مما هو داخل تحت قدرتي وإنما هو لله عزوجل الذي كفرتم به وعصيتم أمره يأتيكم به عاجلا أو آجلا إن تعلقت به مشيئته التابعة للحكمة ، وفيه كما قيل : ما لا يخفى