مباديها يعني كما قيل : إنكم اتخذتم فقدان هذه الأمور الثلاثة ذريعة إلى تكذيبي ، والحال أني لا أدعي شيئا من ذلك ولا الذي يتعلق بشيء منها ، وإنما الذي أدعيه يتعلق بالفضائل التي تتفاوت بها مقادير البشر ، وقيل : أراد بهذا لا أقول : إني روحاني غير مخلوق من ذكر وأنثى بل إنما أنا بشر مثلكم فلا معنى لردكم علي بقولكم (ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا) وعلى القولين لا دليل فيه على أن الملائكة أفضل من الأنبياء عليهمالسلام خلافا لمن استدل به ، وجعل ذلك كلاما آخر ليس ردا لما قالوه سابقا مما لا وجه له فتدبر (وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ) أي تستحقرهم والأصل تزتري بالتاء إلا أنها قلبت دالا لتجانس الزاي في الجهر لأنها من المهموسة ، وأصل الازدراء الإعابة يقال : ازدراه إذا عابه ، والتعبير بالمضارع للاستمرار ، أو لحكاية الحال لأن الازدراء قد وقع ، وإسناده إلى الأعين مجاز للمبالغة في رأي من حيث إنه إسناد إلى الحاسة التي لا يتصور منها تعييب أحد فكأن من لا يدرك ذلك يدركه ، وللتنبيه على أنهم استحقروهم بادي الرؤية وبما عاينوا من رثاثة حالهم وقلة منالهم دون تأمل وتدبر في معانيهم وكمالاتهم ، وعائد الموصول محذوف كما أشرنا إليه ، واللام للأجل لا للتبليغ وإلا لقيل فيما بعد يؤتيكم أي لا أقول مساعدة لكم ونزولا على هواكم في شأن الذين استرذلتموهم واستحقرتموهم لفقرهم من المؤمنين (لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً) في الدنيا أو في الآخرة فعسى الله سبحانه يؤتيهم خيري الدارين.
(اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ) مما يستعدون به لإيتاء ذلك ، وفي إرشاد العقل السليم من الإيمان ، وفيه توجيه لعطف نفي هذا القول الذي ليس مما يستنكره الكفرة ولا مما يتوهمون صدوره عنه عليهالسلام أصالة واستتباعا على نفي هاتيك الأقوال التي هي مما يستنكرونه ويتوهمون صدوره عنه عليهالسلام إن ذلك من جهة أن كلا النفيين رد لقياسهم الباطل الذي تمسكوا به فيما سلف فإنهم زعموا أن النبوة تستتبع الأمور المذكورة من ادعاء الملكية وعلم الغيب وحيازة الخزائن وأن العثور على مكانها واغتنام مغانمها ليس من داب الأراذل ، فأجاب عليهالسلام بنفي ذلك جميعا فكأنه قال : لا أقول وجود تلك الأشياء من مواجب النبوة ولا عدم المال والجاه من موانع الخير ، واقتصر عليهالسلام على نفي القول المذكور مع أنه عليهالسلام جازم بأن الله سبحانه سيؤتيهم خيرا عظيما في الدارين وأنهم على يقين راسخ في الإيمان جريا على سنن الإنصاف مع القوم واكتفاء بمخالفة كلامهم وإرشادا لهم إلى مسلك الهداية بأن اللائق لكل أحد أن لا يبت القول إلا فيما يعلمه يقينا ويبني أموره على الشواهد الظاهرة ولا يجازف فيما ليس فيه على بينة انتهى ، وأنت تعلم أنه عليهالسلام قد بتّ القول بفوز هؤلاء في قوله : (وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) بناء على أنهم المعنيون بالذين آمنوا ، وأن المراد من كونهم ملاقو ربهم أنهم مقربون في حضرة القدس ـ كما قال به غير واحد ـ وكذا الحكم إذا كان المعني بالموصول من اتصف بعنوان الصلة مطلقا إذ يدخلون فيه دخولا أوليا لما أن المسئول صريحا أو تلويحا طردهم ، ولعل البت تارة وعدمه أخرى لاقتضاء المقام ذلك وأن في كون الكفرة قد زعموا أن العثور على مكان النبوة واغتنام مغانمها ليس من دأب الأراذل خفاء مع دعوى أنهم لوحوا بقولهم : (وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ) إلخ الذي هو مظنة ذلك الزعم إلى التماس طردهم وتعليق إيمانهم به عليهالسلام بذلك أنفة من الانتظام معهم في سلك واحد.
وفي البحر أن معنى (وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ) إلخ ليس احتقاركم إياهم ينقص ثوابهم عند الله تعالى ولا يبطل أجورهم ولست أحكم عليهم بشيء من هذا ، وإنما الحكم بذلك للذي يعلم ما في أنفسهم فيجازيهم عليه ، وقيل : إن هذا رد لقولهم (وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ) إلخ على معنى لست أحكم عليهم بأن لا يكون لهم خير لظنكم بهم أن بواطنهم ليست كظواهرهم الله أعلم بما في نفوسهم انتهى ، ولا يخفى ما فيه.