المعنى على ما هو المعهود في المسألة ، وهو عند الزمخشري على ما قيل شرطية واحدة مقيدة حيث جعل لا ينفعكم دليل الجواب لأن كان ، وجعل إن أردت قيدا لذلك نظير إن أحسنت إلي أحسنت إليك إن أمكنني فتأمل ، والكلام متعلق بقولهم : (قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا) صدر عنه عليهالسلام إظهارا للعجز عن ردهم عما هم عليه من الضلال بالحجج والبينات لفرط تماديهم في العناد وإيذانا بأن ما سبق منه إنما كان بطريق النصيحة لهم والشفقة عليهم وأنه لم يأل جهدا في إرشادهم إلى الحق وهدايتهم إلى سبيله المستبين ولكن لا ينفعهم ذلك عند إرادته سبحانه لإغوائهم ، وتقييد عدم نفع النصح بإرادته مع أنه محقق لا محالة للإيذان بأن ذلك النصح مقارن للإرادة والاهتمام به ، ولتحقيق المقابلة بين ذلك ، وبين ما وقع بإزائه من إرادته تعالى لإغوائهم ، وإنما اقتصر في ذلك على مجرد إرادة الإغواء دون نفسه حيث لم يقل إن كان الله يغويكم مبالغة في بيان غلبة جنابه جل جلاله حيث دل ذلك على أن نصحه المقارن للاهتمام به لا يجديهم نفعا عند مجرد إرادة الله تعالى إغواءهم فكيف عند تحققه وخلقه فيهم ، وزيادة كان للإشعار بتقدم إرادته تعالى زمانا كتقدمه رتبة ، وللدلالة على تجددها واستمرارها ، وقدم على هذا الكلام ما يتعلق بقولهم : (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا) من قوله : (إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شاءَ) ردا عليهم من أول الأمر وتسجيلا عليهم بحلول العذاب مع ما فيه من اتصال الجواب بالسؤال ـ قال ذلك مولانا شيخ الإسلام ـ ثم إن (إِنْ أَرَدْتُ) أن أبقى على الاستقبال لا ينافي كونه نصحهم في الزمن الماضي ، وقيل : إنه مجاراة لهم لاستظهار الحجة لأنهم زعموا أن ما فعله ليس بنصح إذ لو كان نصحا قبل منه ، واللام في (لَكُمْ) ليست للتقوية كما قد يتوهم لتعدي الفعل بنفسه كما في قوله :
نصحت بني عوف فلم يتقبلوا |
|
رسولي ولم تنجح لديهم رسائلي |
لما في الصحاح أنه باللام أفصح ، وفي الآية دليل على أن إرادة الله تعالى مما يصح تعلقها بالإغواء وأن خلاف مراده سبحانه محال ، وإلا لم تصدق الشرطية الدالة على لزوم الجواب للشرط ، والمعتزلة وقعوا في حيص بيص منها واختلفوا في تأويلها ، فقيل : إن (يُغْوِيَكُمْ) بمعنى يهلككم من غوى الفصيل إذا بشم من كثرة شرب اللبن فهلك ، وقد روي مجيء الغوي ـ بمعنى الهلاك ـ الفراء. وغيره ، وأنكره مكي.
وقيل : إن الإغواء مجاز عن عقوبته أي إن كان الله يريد عقوبة إغوائكم الخلق وإضلالكم إياهم.
وقيل : إن قوم نوح كانوا يعتقدون أن الله تعالى أراد إغواءهم فأخرج عليهالسلام ذلك مخرج التعجب والإنكار أي إن نصحي لا ينفعكم إن كان الأمر كما تزعمون ، وقيل : سمي ترك إلجائهم وتخليتهم وشأنهم إغواء مجازا ، وقيل : إن نافية أي ما كان الله يريد أن يغويكم ، ونفي ذلك دليل على نفي الإغواء ، ويكون (لا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي) إلخ إخبارا منه عليهالسلام لهم وتعزية لنفسه عنهم لما رأى من إصرارهم وتماديهم على الكفر ، ولا يخفى ما في ذلك من مخالفة الظاهر المعروف في الاستعمال وارتكاب ما لا ينبغي ارتكاب مثله في كلام الملك المتعال.
ومن الناس من اعترض الاستدلال بأن الشرطية لا تدل على وقوع الشرط ولا جوازه فلا يتم ولا يحتاج إلى التأويل ولا إلى القال والقيل ، ودفع بأن المقام ينبو عنه لعدم الفائدة في مجرد فرض ذلك فإن أرادوا إرجاعه إلى قياس استثنائي فإما أن يستثنى عين المقدم فهو المطلوب أو نقيض التالي فخلاف الواقع لعدم حصول النفع.
وبالجملة الآية ظاهرة جدا فيما ذهب إليه أهل السنة ، والله سبحانه الموفق (هُوَ رَبُّكُمْ) أي خالقكم ومالك أمركم (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) فيجازيكم على أفعالكم لا محالة.
(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : يعني نوحا عليهالسلام أي بل أيقول قوم نوح إن