نوحا افترى ما جاء به مسندا إلى الله عزوجل (قُلْ) يا نوح (إِنِ افْتَرَيْتُهُ) بالفرض البحت. (فَعَلَيَّ إِجْرامِي) أي وباله فهو على تقدير مضاف ، أو على التجوز بالسبب عن المسبب ، وفسر الإجرام بكسب الذنب وهو مصدر أجرم ، وجاء على قلة جرم ، ومن ذلك قوله :
طريد عشيرة ورهين ذنب |
|
بما «جرمت» يدي وجنى لساني |
وقرئ «أجرامي» بفتح الهمزة على أنه كما قال النحاس : جمع جرم ، واستشكل العز بن عبد السلام الشرطية بأن الافتراء المفروض هنا ماض والشرط يخلص للاستقبال بإجماع أئمة العربية ، وأجاب أن المراد ـ كما قال ابن السراج ـ إن ثبت أني افتريته فعلي إجرامي على ما قيل في قوله تعالى : (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ) [المائدة : ١١٦] (وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ) أي من إجرامكم في إسناد الافتراء إلي ، قيل : والأصل إن افتريته فعلي عقوبة افترائي ولكنه فرض محال وأنا بريء من افترائكم أي نسبتكم إياي إلى الافتراء ، وعدل عنه إدماجا لكونهم مجرمين ، وأن المسألة معكوسة ، وحملت ما على المصدرية لما في الموصولية من تكلف حذف العائد مع أن ذلك هو المناسب لقوله (إِجْرامِي) فيما قبل ، وما يقتضيه كلام ابن عباس من أن الآية من تتمة قصة نوح عليهالسلام وفي شأنه هو الظاهر ، وعليه الجمهور ، وعن مقاتل أنها في شأن النبي صلىاللهعليهوسلم مع مشركي مكة أي بل أيقول مشركو مكة افترى رسول الله صلىاللهعليهوسلم خبر نوح ، قيل : وكأنه إنما جيء به في تضاعيف القصة عند سوق طرف منها تحقيقا لحقيقتها وتأكيدا لوقوعها وتشويقا للسامعين إلى استماعها لا سيما وقد قص منها طائفة متعلقة بما جرى بينه عليهالسلام وبين قومه من المحاجة ، وبقيت طائفة مستقلة متعلقة بعذابهم ، ولا يخفى أن القول بذلك بعيد وإن وجه بما وجه ، وقال في الكشف : إن كونها في شأن النبي صلىاللهعليهوسلم أظهر وأنسب من كونها من تتمة قصة نوح عليهالسلام لأن (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) كالتكرير لقوله سبحانه : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) دلالة على كمال العناد وأن مثله بعد الإتيان بالقصة على هذا الأسلوب المعجز مما لا ينبغي أن ينسب إلى افتراء فجاء زيادة إنكار على إنكار كأنه قيل : بل أمع هذا البيان أيضا يقولون : (افْتَراهُ) وهو نظير اعتراض قوله سبحانه في سورة (وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ) [العنكبوت : ١٨] بين قصة إبراهيم عليهالسلام في أحد الوجهين انتهى ، ولا أراه معولا عليه.
(وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) إقناط له عليهالسلام من إيمانهم وإعلام بأنه لم يبق فيهم من يتوقع إيمانه ، أخرج إسحاق بن بشر وابن عساكر عن ابن عباس قال : إن نوحا عليهالسلام كان يضرب ثم يلف في لبد فيلقى في بيته يرون أنه قد مات ثم يخرج فيدعوهم ، واتفق أن جاءه رجل ومعه ابنه وهو يتوكأ على عصا فقال : يا بني انظر هذا الشيخ لا يغرنك قال : يا أبت أمكني من العصا فأخذ العصا ثم قال : ضعني على الأرض فوضعه فمشى إليه فضربه فشجه موضحة في رأسه وسالت الدماء فقال نوح عليهالسلام : رب قد ترى ما يفعل بي عبادك فإن يك لك في عبادك حاجة فاهدهم وإن يكن غير ذلك فصبرني إلى أن تحكم وأنت خير الحاكمين فأوحى الله تعالى إليه وآيسه من إيمان قومه وأخبره أنه لم يبق في أصلاب الرجال ولا في أرحام النساء مؤمن. وقال سبحانه : يا (نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ) إلخ ، والمراد بمن آمن قيل : من استمر على الإيمان وللدوام حكم الحدوث ، ولذا لو حلف لا يلبس هذا الثوب وهو لابسه فلم ينزعه في الحال حنث ، وقيل : المراد إلا من قد استعد للإيمان وتوقع منه ولا يراد ظاهره وإلا كان المعنى إلا من آمن فإنه يؤمن ، وأورد عليه أنه مع بعده يقتضي أن من القوم من آمن بعد ذلك ، وهو ينافي تقنيطه من إيمانهم ، وقد يقال : المراد ما هو الظاهر والاستثناء على حد الاستثناء في قوله تعالى : (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) [النساء : ٢٣] على ما قاله غير واحد ، فيفيد الكلام الإقناط على أتم وجه وأبلغه أي لن يحدث من قومك إيمانا