الموصوف بأنه لا يتأتى منه العصيان ادعاء بقرينة نسبة الخطاب إليه ودخول حرف النداء عليه ـ وهما من خواص المأمور المطيع ـ ويكون هذا تخييلا.
وقد يقال : أراد أن الاستعارة هاهنا تصريحية تبعية في حرف النداء بناء على تشبيه تعلق الإرادة بالمراد منه بتعلق النداء والخطاب بالمنادى المخاطب وليس بشيء إذ لا يحسن هذا التشبيه ابتداء بل تبعا للتشبيه الأول فكيف يجعل أصلا لمتبوعه؟! على أن قوله للشبه المذكور يدفع هذا الحمل ، ثم استعار لغور الماء في الأرض البلع الذي هو اعمال الجاذبة في المطعوم للشبه بينهما وهو الذهاب إلى مقر خفي.
وفي الكشاف جعل البلع مستعارا لنشف الأرض الماء وهو أولى ، فإن النشف دال على جذب من أجزاء الأرض لما عليها كالبلع بالنسبة إلى الحيوان ، ولأن النشف فعل الأرض والغور فعل الماء مع الطباق بين الفعلين تعديا ، ثم استعار الماء للغذاء استعارة بالكناية تشبيها له بالغذاء لتقوي الأرض بالماء في الإنبات للزروع والأشجار تقوي الآكل بالطعام ، وجعل قرينة الاستعارة لفظة (ابْلَعِي) لكونها موضوعة للاستعمال في الغذاء دون الماء.
ولا يخفى عليك أنه إذا اعتبر مذهب السلف في الاستعارة يكون (ابْلَعِي) استعارة تصريحية ومع ذلك يكون بحسب اللفظ قرينة للاستعارة بالكناية في الماء على حد ما قالوا في : (يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ) [البقرة : ٢٧ ، الرعد : ٢٥] وأما إذا اعتبر مذهبه فينبغي أن يكون البلع باقيا على حقيقته كالإنبات في أنبت الربيع البقل وهو بعيد ، أو يجعل مستعارا لأمر متوهم كما في نطقت الحال ، فيلزمه القول بالاستعارة التبعية كما هو المشهور ، ثم إنه تعالى أمر على سبيل الاستعارة للتشبيه الثاني وخاطب في الأمر ترشيحا لاستعارة النداء.
والحاصل أن في لفظ (ابْلَعِي) باعتبار جوهره استعارة لغور الماء وباعتبار صورته أعني كونه صورة أمر استعارة أخرى لتكوين المراد وباعتبار كونه أمر خطاب ترشيح للاستعارة المكنية التي في المنادى فإن قرينتها النداء وما زاد على قرينة المكنية يكون ترشيحا لها ، وأما جعل النداء استعارة تصريحية تبعية حتى يكون خطاب الآمر ترشيحا لها فقد عرفت ما فيه ، ثم قال جل وعلا : (ماءَكِ) بإضافة الماء إلى الأرض على سبيل المجاز تشبيها لاتصال الماء بالأرض باتصال الملك بالمالك ، واختار ضمير الخطاب لأجل الترشيح ، وحاصله أن هناك مجازا لغويا في الهيئة الإضافية الدالة على الاختصاص الملكي ولهذا جعل الخطاب ترشيحا لهذه الاستعارة من حيث إن الخطاب يدل على صلوح الأرض للمالكية فما قيل : إن المجاز عقلي والعبارة مصروفة عن الظاهر ليس بشيء ، ثم اختار لاحتباس المطر الإقلاع الذي هو ترك الفاعل الفعل للشبه بينهما في عدم ما كان من المطر أو الفعل ففي (أَقْلِعِي) استعارة باعتبار جوهره وكذا باعتبار صيغته أيضا وهي مبنية على تشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافذ ، والخطاب فيه أيضا ترشيح لاستعارة النداء ، والحاصل أن الكلام فيه مثل ما مر في (ابْلَعِي) ثم قال سبحانه : (وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً) فلم يصرح جل وعلا بمن غاض الماء ولا بمن قضى الأمر وسوى السفينة وقال بعدا كما لم يصرح سبحانه بقائل (يا أَرْضُ وَيا سَماءُ) في صدر الآية سلوكا في كل واحد من ذلك لسبيل الكناية لأن تلك الأمور العظام لا تصدر إلا من ذي قدرة لا يكتنه قهار لا يغالب فلا مجال لذهاب الوهم إلى أن يكون غيره جلت عظمته قائلا : (يا أَرْضُ) و (يا سَماءُ) ولا غائض ما غاض ولا قاضي مثل ذلك الأمر الهائل ، أو أن يكون تسوية السفينة وإقرارها بتسوية غيره.
والحاصل أن الفعل إذا تعين لفاعل بعينه استتبع لذلك أن يترك ذكره ويبني الفعل لمفعوله ، أو يذكر ما هو أثر لذلك الفعل على صيغة المبني للفاعل ، ويسند إلى ذلك المفعول فيكون كناية عن تخصيص الصفة التي هي الفعل بموصوفها ، وهذا أولى مما قيل في تقرير الكناية هنا : إن ترك ذكر الفاعل وبناء الفعل للمفعول من لوازم العلم بالفاعل