وتعينه لفاعلية ذلك الفعل فذكر اللازم وأريد الملزوم لما أن استوت غير مبني للمفعول ـ كقيل وغيض ـ ثم إنه تعالى ختم الكلام بالتعريض تنبيها لسالكي مسلك أولئك القوم في تكذيب الرسل عليهمالسلام ظلما لأنفسهم لا غير ختم إظهار لمكان السخط ولجهة استحقاقهم إياه وأن قيامة الطوفان وتلك الصورة الهائلة ما كانت إلا لظلمهم كما يؤذن بذلك الدعاء بالهلاك بعد هلاكهم والوصف بالظلم مع تعليق الحكم به ، وذكر بعضهم أن البعد في الأصل ضد القرب وهو باعتبار المكان ويكون في المحسوس ، وقد يقال في المعقول نحو (ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً) [النساء : ١٦٧] واستعماله في الهلاك مجاز ، قال ناصر الدين : يقال بعد بعدا بضم فسكون وبعدا بالتحريك إذا بعد بعدا بعيدا بحيث لا يرجى عوده ، ثم استعير للهلاك وخص بدعاء السوء ولم يفرق في القاموس بين صيغتي الفعل في المعنيين حيث قال : البعد معروف والموت وفعلهما ـ ككرم وفرح ـ بعدا وبعدا فافهم.
وزعم بعضهم أن الأرض والسماء أعطيتا ما يعقلان به الأمر فقيل لهما حقيقة ما قيل ، وأن القائل (بُعْداً) نوح عليهالسلام ومن معه من المؤمنين ، ولا يخفى أن هذا خلاف الظاهر ولا أثر فيه يعول عليه ، والكلام على الأول أبلغ ، وأما النظر فيها من جهة علم المعاني وهو النظر في فائدة كل كلمة فيها وجهة كل تقديم وتأخير فيما بين جملها فذلك أنه اختير (يا) دون سائر أخواتها لكونها أكثر في الاستعمال وأنها دالة على بعد المنادى الذي يستدعيه مقام إظهار العظمة وإبداء شأن العزة والجبروت ، وهو تبعيد المنادى المؤذن بالتهاون به ولم يقل (يا أَرْضُ) بالكسر لأن الإضافة إلى نفسه جل شأنه تقتضي تشريفا للأرض وتكريما لها فترك إمدادا للتهاون لم يقل يا أيتها الأرض مع كثرته في نداء أسماء الأجناس قصدا إلى الاختصار والاحتراز عن تكلف التنبيه المشعر بالغفلة التي لا تناسب ذلك المقام ، واختير لفظ الأرض والسماء على سائر أسمائهما كالمقلة والغبراء وكالمظلة والخضراء لكونهما أخصر وأورد في الاستعمال وأوفى بالمطابقة ، فإن تقابلهما إنما اشتهر بهذين الاسمين ، واختير لفظ (ابْلَعِي) على ابتلعي لكونه أخصر وأوفر تجانسا ـ باقلعي ـ لأن همزة الوصل إن اعتبرت تساويا في عدد الحروف وإلا تقاربا فيه بخلاف ابتلعي ، وقيل : (ماءَكِ) بالإفراد دون الجمع لما فيه من صورة الاستكثار المتأبى عنها مقام إظهار الكبرياء وهو الوجه في إفراد الأرض والسماء وإنما لم يقل (ابْلَعِي) بدون المفعول لئلا يستلزم تركه ما ليس بمراد من تعميم الابتلاع للجبال والتلال والبحار وساكنات الماء بأسرهن نظرا إلى مقام عظمة الآمر المهيب وكمال انقياد المأمور ، ولما علم أن المراد بلع الماء وحده علم أن المقصود بالإقلاع إمساك السماء عن إرسال الماء فلم يذكر متعلق (أَقْلِعِي) اختصارا واحترازا عن الحشو المستغنى عنه وهذا هو السبب في ترك ذكر حصول المأمور به بعد الأمر فلم يقل (قِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي) فبلعت (وَيا سَماءُ أَقْلِعِي) فقلعت لأن مقام الكبرياء وكمال الانقياد يغني عن ذكره الذي ربما أوهم إمكان المخالفة ، واختير غيض على غيض المشدد لكونه أخصر.
وقيل : الماء دون ماء طوفان السماء ، وكذا الأمر دون أمر نوح وهو إنجاز ما وعد لقصد الاختصار ، والاستغناء بحرف التعريف عن ذلك لأنه إما بدل من المضاف إليه كما هو مذهب الكوفية ، وإما لأنه يغني غناء الإضافة في الإشارة إلى المعهود ، واختير استوت على سويت أي أقرت مع كونه أنسب بأخواته المبنية للمفعول اعتبارا لكون الفعل المقابل للاستقرار أعني الجريان منسوبا إلى السفينة على صيغة المبني للفاعل في قوله تعالى : (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ) مع أن (اسْتَوَتْ) أخصر من سويت ، واختير المصدر أعني (بُعْداً) على ليبعد القوم طلبا لتأكيد معنى الفعل بالمصدر مع الاختصار في العبارة وهو نزول (بُعْداً) وحده منزلة ليبعدوا بعدا مع فائدة أخرى هي الدلالة على استحقاق الهلاك بذكر اللام ، وإطلاق الظلم عن مقيداته في مقام المبالغة يفيد تناول كل نوع فيدخل فيه ظلمهم على