أنفسهم لزيادة التنبيه على فظاعة سوء اختيارهم في التكذيب من حيث إن تكذيبهم للرسل ظلم على أنفسهم لأن ضرره يعود إليهم ، هذا من حيث النظر إلى تركيب الكلم ، وأما من حيث النظر إلى ترتيب الجمل فذلك أنه قدم النداء على الأمر فقيل : (يا أَرْضُ ابْلَعِي وَيا سَماءُ أَقْلِعِي) دون أن يقال : ابلعي يا أرض ، واقلعي يا سماء جريا على مقتضى اللازم فيمن كان مأمورا حقيقة من تقديم التنبيه ليتمكن الأمر الوارد عقيبه في نفس المنادى قصدا بذلك لمعنى الترشيح للاستعارة المكنية في الأرض والسماء ، ثم قدم أمر الأرض على أمر السماء لكونها الأصل نظرا إلى كون ابتداء الطوفان منها حيث فار تنورها أولا ، ثم جعل قوله سبحانه : (وَغِيضَ الْماءُ) تابعا لأمر الأرض والسماء لاتصاله بقصة الماء وأخذه بحجزتها ، ألا ترى أصل الكلام (قِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ) فبلعت ماءها (وَيا سَماءُ أَقْلِعِي) عن إرسال الماء فأقلعت عن إرساله (وَغِيضَ الْماءُ) النازل من السماء فغاض.
وقيد الماء بالنازل وإن كان في الآية مطلقا لأن ابتلاع الأرض ماءها فهم من قوله سبحانه : (ابْلَعِي ماءَكِ).
واعترض بأن الماء المخصوص بالأرض إن أريد به ما على وجهها فهو يتناول القبيلين الأرضي والسمائي وإن أريد به ما نبع منها فاللفظ لا يدل عليه بوجه ، ولهذا حمل الزمخشري الماء على مطلقه ، وأشعر كلامه بأن غيض الماء إخبار عن الحصول المأمور به من قوله سبحانه : (يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي) فالتقدير قيل لهما ذلك فامتثلا الأمر ونقص الماء.
ورجح الطيبي ما ذهب إليه السكاكي زاعما أن معنى الغيض حينئذ ما قاله الجوهري ، وهو عنده مخالف للمعنى الذي ذكره الزمخشري فقال : إن إضافة الماء إلى الأرض لما كانت ترشيحا للاستعارة تشبيها لاتصاله بها باتصال الملك بالمالك ولذا جيء بضمير الخطاب اقتضت إخراج سائر المياه سوى الذي بسببه صارت الأرض مهيأة للخطاب بمنزلة المأمور المطيع وهو المعهود في قوله تعالى : (وَفارَ التَّنُّورُ) وبهذا الاعتبار يحصل التواغل في تناسي التشبيه والترشيح ، ولو أجريت الإضافة على غير هذا تكون كالتجريد وكم بينهما ، هذا ولو حمل على العموم لاستلزام تعميم ابتلاعه المياه بأسرها لورود الأمر من مقام العظمة كما علمت من كلام السكاكي ، وليس بذاك ، وتعقبه في الكشف بأنه دعوى بلا دليل ورد يمين إذ لا معهود ، والظاهر ما على وجه الأرض من الماء ولا ينافي الترشيح وإضافة المالكية ، ثم الظاهر من تنزيل الماء منزلة الغذاء أن تجعل الإضافة من باب إضافة الغذاء إلى المغتذي في النفع والتقوية وصيرورته جزءا منه ولا نظر فيه إلى كونه مملوكا أو غير ذلك ، وأما التعميم فمطلوب وحاصل على التفسيرين لانحصار الماء في الأرضي والسمائي ، وقد قلتم بنضوبهما من قوله سبحانه فبلعت. وقوله تعالى : (وَغِيضَ) ولا شك أن ما عندنا من الماء غير ماء الطوفان ، هذا والمطابق تفسير الزمخشري ، ألا ترى إلى قوله جل وعلا : (فَالْتَقَى الْماءُ) أي الأرضي والسمائي ، وهاهنا تقدم الماءان في قوله سبحانه : (ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي) لأن تقديره عن إرسال الماء على زعمهم ، فإذا قيل : وغيض الماء رجع إليهما لا محالة لتقدمهما ، ثم إذا جعل من توابع (أَقْلِعِي) خاصة لم يحسن عطفه على أصل القصة أعني (وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي) كيف وفي إيثار هذا التفسير الإشارة إلى أنه زال كونه طوفانا لأن نقصان الماء غير الإذهاب بالكلية ، وإلى أن الأجزاء الباطنة من الأرض لم تبق على ما كانت عليه من قوة الإنباع ورجعت إلى الاعتدال المطلوب وليس في الاختصاص بالنضوب هذا المعنى البتة انتهى.
وزعم الطبرسي أن أئمة البيت رضي الله تعالى عنهم على أن الماء المضاف هو ما نبع وفار وأنه هو الذي ابتلع وغاض لا غير ، وأن ماء السماء صار بحارا أو نهارا.
وأخرج ابن عساكر من طريق الكلبي عن ابن عباس ما يؤيده ، وهذا مخالف لما يقتضيه كلام السكاكي مخالفة