نشاط المتكلم إذا لم يجد محلا قابلا لكلامه وضيق صدره من ذلك هيج جل شأنه نشاط نبيه صلىاللهعليهوسلم بما أنزل عليه من هذه الآية الكريمة ، وقال سبحانه : (إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ) ولا يخلو الإنذار عن إحدى فائدتين : رفع الحجاب عمن وفق وإلزام الحجة لمن خذل (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) فكل الهداية إليه (مَنْ كانَ يُرِيدُ) بعلمه الذي هو بظاهره من أعمال الآخرة (الْحَياةَ الدُّنْيا) كالجاه والمدح (نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ) أي جزاءها فيها إن شئنا (وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ) أي لا ينقصون شيئا منها (أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ) لتعذب قلوبهم بالحجب الدنيوية (وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها) من أعمال البر فلم ينتفعوا بها ، وجاء «إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى» الحديث (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) أي يقين برهاني عقلي أو وجداني كشفي (وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ) وهو القرآن المصدق لذلك ، ومن هنا تؤيد الأدلة العقلية بالآيات النقلية القرآنية. ويحكم بكون الكشف صحيحا إذا شهدت له ووافقته ، ولذا قالوا : كل كشف خالف ما جاء عن الله تعالى ليس بمعتبر (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى) أي يتبع البرهان من قبل هذا الكتاب كتاب موسى عليهالسلام في حالة كونه (إِماماً) يؤتم به في تحقيق المطالب (وَرَحْمَةً) لمن يهتدي به ، وهذا وجه في الآية ذكره بعضهم ، وقد قدمنا ما فيها من الاحتمالات ؛ وقد ذكروا أن المراد بيان بعد ما بين مرتبتي من يريد الحياة الدنيا ومن هو على بينة من ربه.
وللصوفية قدست أسرارهم عبارات شتى في البينة فقال رويم : هي الإشراف عن القلوب والحكم على الغيوب ، وقال سيد الطائفة : هي حقيقة يؤيدها ظاهر العلم ، وقيل : غير ذلك ، وعن أبي بكر بن طاهر أن من كان على بينة من ربه كانت جوارحه وقفا على الطاعات والموافقات ولسانه مشغولا بالذكر ونشر الآلاء والنعماء وقلبه منورا بأنوار التوفيق وضياء التحقيق وسره وروحه مشاهدين للحق في جميع الأوقات وكان عالما بما يبدو من مكنون الغيوب ورؤيته يقين لا شك فيه وحكمه على الخلق كحكم الحق لا ينطق إلا بالحق ولا يرى إلا الحق لأنه مستغرق به فأنى يرى سواه (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) إلخ جعله بعضهم إشارة إلى المثبتين لغيره سبحانه وجودا وهم أهل الكثرة والحجاب ، وفسر الأشهاد بالموحدين الذين لا يشهدون في الدار غيره سبحانه ديارا.
ومن الناس من عكس الأمر وجعلها ردا على أهل الوحدة القائلين : إن كل ما شاهدته بعينك أو تصورته بفكرك فهو الله سبحانه بمعنى كفر النصارى إيمان بالنسبة إليه وحاش أهل الله تعالى من القول به على ما يشعر به ظاهره ، ومنهم من جعلها مشيرة إلى حال من يزعم أنه ولي الله تعالى ويتزيا بزي السادات ويتكلم بكلماتهم وهو في الباطن أفسق من قرد وأجهل من حمار تومه (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ) قيل : (الْبَصِيرِ) من عاين ما يراد به وما يجري له وعليه في جميع أوقاته (وَالسَّمِيعِ) من يسمع ما يخاطب به من تقريع وتأديب وحث وندب لا يغفل عن الخطاب في حال من الأحوال ، وقيل : (الْبَصِيرِ) الناظر إلى الأشياء بعين الحق فلا ينكر شيئا ولا يتعجب من شيء (وَالسَّمِيعِ) من يسمع من الحق فيميز الإلهام من الوسواس ، وقيل : (الْبَصِيرِ) هو الذي يشهد أفعاله بعلم اليقين وصفاته بعين اليقين وذاته بحق اليقين فالغائبات له حضور والمستورات له كشف (وَالسَّمِيعِ) من يسمع من دواعي العلم شرعا ، ثم من خواطر التعريف قدرا ، ثم يكاشف بخطاب من الحق سرا ، وقيل : (السَّمِيعِ) من لا يسمع إلا كلام حبيبه ، و (الْبَصِيرِ) من لا يشاهد إلا أنواره فهو في ضيائها ليلا ونهارا ، وإلى هذا يشير قول قائلهم :
ليلي من وجهك شمس الضحى |
|
وإنما السدفة في الجو |
الناس في الظلمة من ليلهم |
|
ونحن من وجهك في الضو |
وفسر كل من ـ الأعمى والأصم ـ بضد ما فسر به (الْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ) والمراد من قوله سبحانه : (هَلْ