الْمُرْسَلُونَ) [الحجر : ٥٧ ، الذاريات : ٣١] ويقال : المراد منه السؤال عن حال العذاب هل هو واقع بهم لا محالة أم هو على سبيل الإخافة ليرجعوا إلى الإيمان؟ وتفسير المجادلة به كما مر عن بعض فتدبر ذاك والله سبحانه يتولى هداك (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ) غير عجول على الانتقام إلى المسيء إليه (أَوَّاهٌ) كثير التأوه من الذنوب والتأسف على الناس (مُنِيبٌ) راجع إلى الله تعالى ، والمقصود من وصفه عليهالسلام بهذه الصفات المنبئة عن الشفقة ورقة القلب بيان ما حمله على ما صدر عنه من المجادلة ، وحمل الحلم على عدم العجلة والتأني في الشيء مطلقا ، وجعل المقصود من الوصف بتلك الصفات بيان ما حمله على المجادلة وإيقاعها بعد أن تحقق ذهاب الروع ومجيء البشرى لا يخفى حاله.
(يا إِبْراهِيمُ) على تقدير القول ليرتبط بما قبل أي قالت الملائكة ، أو قلنا (يا إِبْراهِيمُ).
(أَعْرِضْ عَنْ هذا) الجدال (إِنَّهُ) أي الشأن (قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ) أي قدره تعالى المقضي بعذابهم ، وقد يفسر بالعذاب ، ويراد بالمجيء المشارفة فلا يتكرر مع قوله سبحانه : (وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ) أي لا بجدال ولا بدعاء ولا بغيرهما إذ حاصل ذلك حينئذ شارفهم ثم وقع بهم ، وقيل : لا حاجة إلى اعتبار المشارفة ، والتكرار مدفوع بأن ذاك توطئة لذكر كونه غير مردود.
وقرأ عمرو بن هرم ـ وإنهم أتاهم ـ بلفظ الماضي و (عَذابٌ) فاعل به ، وعبر بالماضي لتحقيق الوقوع (وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً) عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : انطلقوا من عند إبراهيم عليهالسلام وبين القريتين أربعة فراسخ ودخلوا عليه في صورة غلمان مرد حسان الوجوه فلذلك (سِيءَ بِهِمْ) أي أحدث له عليهالسلام مجيئهم المساءة لظنه أنهم أناس فخاف أن يقصدهم قومه ويعجز عن مدافعتهم ، وقيل : كان بين القريتين ثمانية أميال فأتوها عشاء ، وقيل نصف النهار ووجدوا لوطا في حرث له.
وقيل : وجدوا بنتا له تستقي ماء من نهر سدوم وهي أكبر محل للقوم فسألوها الدلالة على من يضيفهم ورأت هيئاتهم فخافت عليهم من قوم أبيها فقالت لهم : مكانكم وذهبت إلى أبيها فأخبرته فخرج إليهم فقالوا : إنا نريد أن تضيفنا الليلة ، فقال : أو ما سمعتم بعمل هؤلاء القوم؟ فقالوا : وما عملهم؟ فقال : أشهد بالله تعالى أنهم شر قوم في الأرض ، وقد كان الله تعالى قال للملائكة لا تعذبوهم حتى يشهد عليهم لوط أربع شهادات ، فلما قال هذه قال جبريل عليهالسلام : هذه واحدة وتكرر القول منهم حتى كرر لوط الشهادة فتمت الأربع ثم دخل المدينة فدخلوا معه منزله (وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً) أي طاقة وجهدا ، وهو في الأصل مصدر ذرع البعير بيديه يذرع في مسيره إذا سار مادا خطوه مأخوذ من الذراع وهي العضو المعروف ، ثم توسع فيه فوضع موضع الطاقة والجهد ، وذلك أن اليد كما تجعل مجازا عن القوة فالذراع المعروفة كذلك ، وفي الصحاح يقال : ضقت بالأمر ذرعا إذا لم تطقه ولم تقو عليه ، وأصل الذرع بسط اليد فكأنك تريد مددت يدي إليه فلم تنله ، وربما قالوا : ضقت به ذراعا ، قال حميد بن ثور يصف ذئبا :
وإن بات وحشا ليلة لم يضق بها |
|
«ذراعا» ولم يصبح لها وهو خاشع |
وفي الكشاف جعلت العرب ضيق الذراع والذرع عبارة عن فقد الطاقة كما قالوا : رحب الذراع بكذا إذا كان مطيقا له ، والأصل فيه أن الرجل إذا طالت ذراعه نال ما لا يناله القصير الذراع فضرب ذلك مثلا في العجز والقدرة ، ونصبه على أنه تمييز محول عن الفاعل أي ضاق بأمرهم وحالهم ذرعه ، وجوز أن يكون الذرع كناية عن الصدر والقلب ، وضيقه كناية عن شدة الانقباض للعجز عن مدافعة المكروه والاحتيال فيه ، وهو على ما قيل : كناية متفرعة على كناية أخرى مشهورة ؛ وقيل : إنه مجاز لأن الحقيقة غير مرادة هنا ، وأبعد بعضهم في تخريج هذا الكلام فخرجه