وسر النهي عن الالتفات بمعنى التخلف ظاهر ، وأما سره إذا كان بمعنى النظر إلى وراء فهو أن يجدوا في السير فإن من يلتفت إلى ورائه لا يخلو عن أدنى وقفة أو أن لا يروا ما ينزل بقومهم من العذاب فيرقوا لهم.
وذكر بعضهم أن النهي وكذا الضمير للوط عليهالسلام ولأهله أي لا يلتفت أحد منك ومن أهلك. (إِلَّا امْرَأَتَكَ) بالنصب وهو قراءة أكثر السبعة.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالرفع ؛ وقد كثر الكلام في ذلك فقال الزمخشري : إنه سبحانه استثناها من قوله: (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ) ويدل عليه قراءة عبد الله ـ (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ) بقطع من الليل إلا امرأتك ـ ويجوز أن ينتصب من ـ لا يلتفت ـ على أصل الاستثناء ، وإن كان الفصيح هو البدل أعني قراءة من قرأ بالرفع فأبدلها من أحد ، وفي إخراجها مع أهله روايتان : روي أنه أخرجها معهم وأمر أن لا يلتفت منهم أحد إلا هي فلما سمعت هدّة العذاب التفتت وقالت : يا قوماه فأدركها حجر فقتلها.
وروي أنه لما أمر أن يخلفها مع قومها فإن هواها إليهم فلم يسر بها ، واختلاف القراءتين لاختلاف الروايتين انتهى ، وأورد عليه ابن الحاجب ما خلاصته أنه إما أن يسري بها فالاستثناء من أحد متعين أولا فيتعين من (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ) والقصة واحدة فأحد التأويلين باطل قطعا ، والقراءتان الثابتتان قطعا لا يجوز حملهما على ما يوجب بطلان أحدهما ، فالأولى أن يكون (إِلَّا امْرَأَتَكَ) رفعا ونصبا مثل (ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ) [النساء : ٦٦] ولا يبعد أن يكون بعض القراء على الوجه الأقوى ، وأكثرهم على ما دونه بل جوز بعضهم أن تتفق القراء على القراءة بغير الأقوى.
وأجاب عنه بعض المغاربة بما أشار إليه في الكشف من منع التنافي لأن الاستثناء من الأهل يقتضي أن لا يكون لوط عليهالسلام مأمورا بالإسراء بها ، ولا يمنع أنها سرت بنفسها ، ويكفي لصحة الاستثناءين هذا المقدر كيف ولم ينه عن إخراجها ولكنه أمر بإخراج غيرها ، نعم يرد على قوله : واختلاف القراءتين لاختلاف الروايتين أنه يلزم الشك في كلام لا ريب فيه من رب العالمين ، ويجاب بأن معناه اختلاف القراءتين جالب وسبب لاختلاف الروايتين كما تقول : السلاح للغزو أي أداة وصالح مثلا له ، ولم يرد أن اختلاف القراءتين لأجل اختلاف الروايتين قد حصل ، ولا شك أن كل رواية تناسب قراءة وإن أمكن الجمع ، وأما قوله : وأمر أن لا يلتفت منهم أحد إلا هي فنقل للرواية لا تفسير للفظ القرآن ، وإنما الكائن فيه استثناؤها عن الحكم الذي للاستصلاح إذ لم يعن بها ، وإلى معنى ما أشار إليه صاحب الكشف في منع التنافي أشار أبو شامة فقال : وقع في تصحيح ما أعربه النحاة معنى حسن ، وذلك أن يكون في الكلام اختصار نبه عليه اختلاف القراءتين فكأنه قيل : فأسر بأهلك إلا امرأتك كما قرأ به عبد الله ورواه أبو عبيدة عن مصحفه ، فهذا دليل على أن استثناءها من السري بهم ، ثم كأنه قال سبحانه : فإن خرجت معكم وتبعتكم من غير أن تكون أنت سريت بها فانه أهلك عن الالتفات غيرها فإنها ستهلك ويصيبها ما يصيب قومها ، فكانت قراءة النصب دالة على المعنى المتقدم ، وقراءة الرفع دالة على هذا المعنى المتأخر ومجموعهما دال على جملة المعنى المشروح ، ولا يخفى ما في ذلك من التكلف كما قال ابن مالك ، ولذا اختار أن الرفع على أن الاستثناء منقطع ، و (امْرَأَتَكَ) مبتدأ ، والجملة بعدها خبره وإلا بمعنى لكن.
وقال ابن هشام في المغني في الجهة الثامنة من الباب الخامس : إن ما ذكره الزمخشري وقد سبقه إليه غيره في الآية خلاف الظاهر ، والذي حمل القائلين عليه أن النصب قراءة الأكثرين فإذا قدر الاستثناء من أحد كانت قراءتهم على الوجه المرجوح ، وقد التزم بعضهم جواز مجيء الأمرين مستدلا بقوله تعالى : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) [القمر :