تكلفنا بما تكلفنا مع أنك أنت الحليم الرشيد بزعمك ؛ وقيل : يجوز أن يكون تعليلا باقيا على ظاهره بناء على أنه عليهالسلام كان موصوفا عندهم بالحلم والرشد ، وكان ذلك بزعمهم مانعا من صدور ما صدر منه عليهالسلام ، ورجح الأول بأنه الأنسب بما قبله لأنه تهكم أيضا ، ورجح الأخير بأنه يكون الكلام عليه نظير ما مر في قصة صالح عليهالسلام من قولهم له : (قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا) [هود : ٦٢] وتعقيبه بمثل ما عقب به ذلك حسبما تضمنه قوله سبحانه : (قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ) حجة ظاهرة (مِنْ رَبِّي) ومالك أموري (وَرَزَقَنِي مِنْهُ) من لدنه سبحانه (رِزْقاً حَسَناً) هو النبوة والحكمة يدل على ذلك ، والجواب عليه من باب إرخاء العنان. والكلام المنصف كأنه عليهالسلام قال : صدقتم فيما قلتم إني لم أزل مرشدا لكم حليما فيما بينكم لكن ما جئت به ليس غير الإرشاد والنصيحة لكم ، انظروا بعين الإنصاف وأنتم ألباء إن كنت على حجة واضحة ويقين من ربي وكنت نبيا على الحقيقة أيصح لي وأنا مرشدكم والناصح لكم أن لا آمركم بترك عبادة الأوثان والكف عن المعاصي والأنبياء لا يبعثون إلا لذلك؟ ثم إنه عليهالسلام أكد معنى الإرشاد ، وأدرج معنى الحلم فيما سيأتي من كلامه صلىاللهعليهوسلم كذا قرره العلامة الطيبي.
واختار شيخ الإسلام عدم كونه باقيا على الظاهر لما أن مقام الاستهزاء آب عنه ، وذكر قدسسره أن المراد بالبينة والرزق الحسن النبوة والحكمة ، وأن التعبير عنهما بذلك للتنبيه على أنهما مع كونهما بينة رزق حسن كيف لا وذلك مناط الحياة الأبدية له عليهالسلام ولأمته؟ وأن هذا الكلام منه عليهالسلام رد على مقالتهم الشنعاء المتضمنة زعم عدم استناد أمره ونهيه إلى سند ، ثم قال : وجواب الشرط محذوف يدل عليه فحوى الكلام أي أتقولون والمعنى أنكم عددتم ما صدر عني من الأوامر والنواهي من قبيل ما لا يصح أن يتفوه به عاقل وجعلتموه من أحكام الوسوسة والجنون واستهزأتم بي وبأفعالي وقلتم ما قلتم ، فأخبروني إن كنت من جهة ربي ومالك أموري ثابتا على النبوة والحكمة التي ليس وراءها غاية للكمال ولا مطمح لطامح ورزقني لذلك رزقا حسنا أتقولون في شأني وشأن أفعالي ما تقولون مما لا خير فيه ولا شر وراءه؟! وادّعى أن هذا هو الجواب الذي يستدعيه السياق ويساعده النظم الكريم.
وفسر القاضي ـ الرزق الحسن ـ بما آتاه الله تعالى من المال الحلال ، ومعنى كون ذلك منه تعالى أنه من عنده سبحانه وبإعانته بلا كد في تحصيله ، وقدر جواب الشرط فهل يسع لي مع هذا الإنعام الجامع للسعادة الروحانية والجسمانية أن أخون في وحيه وأخالفه في أمره ونهيه ، وذكر أن هذا الكلام منه عليهالسلام اعتذار عما أنكروا عليه من تغيير المألوف والنهي عن دين الآباء ، وقدر بعضهم ما قدره العلامة الطيبي.
وزعم شيخ الإسلام أن ذينك التقديرين بمعزل عما يستدعيه السياق ، وأنهما إنما يناسبان إن حمل كلامهم على الحقيقة ؛ وأريد بالصلاة الدين حسبما نقل عن أبي مسلم وعطاء ، ويكون المراد بالرزق الحسن على ذلك ما آتاه الله تعالى من الحلال فقط كما روي عن الضحاك ويكون المعنى حينئذ أخبروني إن كنت نبيا من عند الله تعالى ورزقني مالا حلالا أستغني به عن العالمين أيصح أن أخالف أمره أو أوافقكم فيما تأتون وما تذرون انتهى.
وأقول : لا يخفى أن المناسب للمقام حمل الرزق الحسن على ما آتاه الله تعالى من الحلال الخالي عن التطفيف والبخس ، وتقدير جواب الشرط نحو ما قدره القاضي ليس في الكلام ما يأبى عنه ، ولا يتوقف على حمل الكلام على الحقيقة والصلاة على الدين بل يتأتى تقدير ذلك ، ولو كان الكلام على سبيل التهكم والصلاة بالمعنى المتبادر بأن يقال : إنهم قاتلهم الله تعالى لما قالوا في ظلال الضلال وقالوا ما قالوا في حق نبيهم وما صدر منه من الأفعال لم يكن لهم مقصود إلا ترك الدعوة وتركهم وما يفعلون ، ولم يتعرض عليهالسلام صريحا لرد قولهم المتضمن لرميه ـ وحاشاه بالوسوسة والجنون والسفه والغواية ـ إيذانا بأن ذلك مما لا يستحق جوابا لظهور بطلانه وتعرض