لجوابهم عما قصدوه بكلامهم ذلك بما يكون فيه قطع أطماعهم من أول الأمر مع الإشارة إلى رد ما تضمنته مقالتهم الشنعاء فكأنه عليهالسلام قال لهم : يا قوم إنكم اجترأتم على هذه المقالة الشنيعة وضمنتموها ما هو ظاهر البطلان لقصد أن أترككم وشأنكم من عبادة الأوثان ونقص المكيال والميزان فأخبروني إن كنت نبيا من عند الله تعالى ومستثنيا بما رزقني من المال الحلال عنكم وعن غيركم أيصح أن أخالف وحيه وأوافق هواكم لا يكون ذلك مني أصلا فإذن لا فائدة لكم في هذا الكلام الشنيع ، وربما يقال : إن في هذا الجواب إشارة إلى وصفهم بنحو ما وصفوه به عليهالسلام كأنه قال : إن طلبكم مني ترك الدعوة وموافقة الهوى مع أني مأمور بدعوتكم وغني عنكم مما لا يصدر عن عاقل ولا يرتكبه إلا سفيه غاو ، وكأن التعرض لذكر الرزق مع الكون على بينة للإشارة إلى وجود المقتضي وارتفاع ما يظن مانعا ، ولا يخفى ما في إخراج الجواب على هذا الوجه من الحسن فتأمل.
بقي أن الذي ذكره النحاة على ما قال أبو حيان في مثل هذا الكلام أعني (أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ) إلخ أن تقدر الجملة الاستفهامية على أنها في موضع المفعول الثاني ـ لأرأيتم ـ المتضمنة معنى أخبروني المتعدية إلى مفعولين والغالب في الثاني أن يكون جملة استفهامية ، وجواب الشرط ما يدل عليه الجملة السابقة مع متعلقها ، والتقدير ـ إن كنت على بينة من ربي فأخبروني هل يسع لي ـ إلخ فافهم ولا تغفل (وَما أُرِيدُ) بنهيي إياكم عما أنهاكم عنه عن البخس والتطفيف (أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ) أي أقصده بعد ما وليتم عنه فأستبد به دونكم كما هو شأن بعض الناس في المنع عن بعض الأمور يقال : خالفني فلان إلى كذا إذا قصده وأنت مول عنه ، وخالفني عنه إذا ولى عنه وأنت قاصده.
قال في البحر : والظاهر على ما ذكروه أن (أَنْ أُخالِفَكُمْ) في موضع المفعول به ـ لأريد ـ أي وما أريد مخالفتكم ، ويكون خالف بمعنى خلف نحو جاوز وجاز ، ويكون المعنى وما أريد أن أكون خلفا منكم ، و (إِلى) متعلقة بأخالف أو بمحذوف أي مائلا إلى ما أنهاكم عنه ، وقيل : في الكلام فعل محذوف معطوف على المذكور أي وأميل إلى إلخ ، ويجوز أن يبقى أخالف على ظاهره من المخالفة ، ويكون (إِنْ) وما بعدها في موضع المفعول به ـ لأريد ـ ويقدر مائلا إلى كما تقدم ، أو يكون (إِنْ) وما بعدها في موضع المفعول له ، و (إِلى ما) متعلقا ـ بأريد ـ أي وما أقصد لأجل مخالفتكم إلى ما أنهاكم عنه ، وقال الزجاج في معنى ذلك : أي ما أقصد بخلافكم إلى ارتكاب ما أنهاكم عنه (إِنْ أُرِيدُ) أي ما أريد بما أقول لكم (إِلَّا الْإِصْلاحَ) أي إلا أن أصلحكم بالنصيحة والموعظة (مَا اسْتَطَعْتُ) أي مدة استطاعتي ذلك وتمكني منه لا آلو فيه جهدا ـ فما ـ مصدرية ظرفية.
وجوز فيها أن تكون موصولة بدلا من الإصلاح أي المقدار الذي استطعته أو (إِلَّا الْإِصْلاحَ) إصلاح ما استطعت ، وهي إما بدل بعض أو كل لأن المتبادر من الإصلاح ما يقدر عليه ، وقيل : بدل اشتمال ، وعليه وعلى الأول يقدر ضمير أي منه لأنه في مثل ذلك لا بد منه ؛ وجوز أيضا أن تكون مفعولا به للمصدر المذكور كقوله :
ضعيف النكاية أعداءه |
|
يخال الفرار يراخي الأجل |
أي ما أريد إلا أن أصلح ما استطعت إصلاحه من فاسدكم ، والأبلغ الأظهر ما قدمناه لأن في احتمال البدلية إضمارا وفوات المبالغة ؛ وفي الاحتمال الأخير إعمال المصدر المعرف في المفعول به ، وفيه ـ مع أنه لا يجوز عند الكوفيين ويقل عند البصريين ـ فواتها ، وزيادة إضمار مفعول «استطعت» (وَما تَوْفِيقِي) أي ما كوني موفقا لتحقيق ما أتوخاه من إصلاحكم (إِلَّا بِاللهِ) أي بتأييده سبحانه ومعونته.
واختار بعضهم أن يكون المراد ـ وما توفيقي لإصابة الحق والصواب في كل ما آتي وأذر إلا بهدايته تعالى