ومعونته ـ والظاهر أن المراد وما كل فرد من أفراد توفيقي لما صرحوا به من أن المصدر المضاف من صيغ العموم ، ويؤول إلى هذا ما قيل : إن المعنى ما جنس توفيقي لأن انحصار الجنس يقتضي انحصار أفراده لكن على الأول بطريق المفهوم. وعلى الثاني بطريق المنطوق ، وتقدير المضاف بعد الباء مما التزمه كثير ، وفيه على ما قيل : دفع الاستشكال بأن فاعل التوفيق هو الله تعالى ، وأهل العربية يستقبحون نسبة الفعل إلى الفاعل بالباء لأنها تدخل على الآلة فلا يحسن ضربي بزيد ، وإنما يقال : من زيد ، فالاستعمال الفصيح بناء على هذا ـ وما توفيقي إلا من عند الله ووجه الدفع بذلك التقدير ظاهر لأن الدخول ليس على الفاعل حينئذ.
وجوز أن يكون ذلك التقدير لما أن التوفيق وهو كون فعل العبد موافقا لما يحبه الله تعالى ويرضاه لا يكون إلا بدلالة الله تعالى عليه ، ومجرد الدلالة لا يجدي بدون المعونة منه عز شأنه (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) في ذلك ، أو في جميع أموري لا على غيره فإنه سبحانه القادر المتمكن من كل شيء ، وغيره سبحانه عاجز في حد ذاته بل معدوم ساقط عن درجة الاعتبار كما أشار إليه الكتاب وعاينه أولو البصائر والألباب (وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) أي أرجع فيما أنا بصدده ، أو أقبل بشراشري في مجامع أموري لا إلى غيره ، والجملة معطوفة على ما قبلها ، وكأن إيثار صيغة الاستقبال فيها على الماضي الأنسب للتقرر والتحقق كما في التوكل لاستحضار الصورة والدلالة على الاستمرار ، ولا يخفى ما في جوابه عليهالسلام مما لا يكاد يوجد في كلام خطيب إلا أن يكون نبيا.
وفي أنوار التنزيل أن لأجوبته عليهالسلام الثلاثة يعني (يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ) إلخ (وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ) إلخ و (إِنْ أُرِيدُ) إلخ على هذا النسق شأنا ، وهو التنبيه على أن العاقل يجب أن يراعي في كل ما يأتيه ويذره ثلاثة حقوق أهمها وأعلاها حق الله تعالى ، فإن الجواب الأول متضمن بيان حق الله تعالى من شكر نعمته والاجتهاد في خدمته. وثانيها حق النفس ، فإن الجواب الثاني متضمن بيان حق نفسه من كفها عما ينبغي أن ينتهي عنه غيره. وثالثها حق الناس فإن الجواب الثالث متضمن للإشارة إلى أن حق الغير عليه إصلاحه وإرشاده ؛ وإنما لم يعطف قوله : (إِنْ أُرِيدُ) إلخ على ما قبله لكونه مؤكدا ومقررا له لأنه لو أراد الاستئثار بما نهى عنه لم يكن مريدا للإصلاح ، ولا ينافي هذا كونه متضمنا لجواب آخر ، وكأن قوله : (وَما تَوْفِيقِي) إلخ إزاحة لما عسى أن يوهمه إسناد الاستطاعة إليه بإرادته من استبداده بذلك ، ونظير ذلك (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة : ٥] وفيه مع ما بعده إشارة إلى محض التوحيد ، وقال غير واحد : إنه قد اشتمل كلامه عليهالسلام على مراعاة لطف المراجعة ورفق الاستنزال والمحافظة على حسن المجاراة والمحاورة ، وتمهيد معاقد الحق بطلب التوفيق من جانبه تعالى والاستعانة به عز شأنه في أموره وحسم أطماع الكفار وإظهار الفراغ عنهم وعدم المبالاة بمعاداتهم ، وقيل : وفيه أيضا تهديدهم بالرجوع إلى الله تعالى للجزاء ، وذلك من قوله : (وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) لأن الرجوع إليه سبحانه يكنى به عن الجزاء وهو وإن كان هنا مخصوصا به لاقتضاء المقام له لكنه لا فرق فيه بينه وبين غيره ، وفيه مع خفاء وجه الإشارة أن الإنابة إنما هي الرجوع الاختياري بالفعل إليه سبحانه لا الرجوع الاضطراري للجزاء وما يعمه ، وقد يقال : إن في قوله : (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) إشارة أيضا إلى تهديدهم لأنه عزوجل الكافي المعين لمن توكل عليه لكن لا يتعين أن يكون ذلك تهديدا بالجزاء يوم القيامة (وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ) أي لا يكسبنكم (شِقاقِي) أي معاداتي ، وأصلها أن أحد المتعاديين يكون في عدوة وشق والآخر في آخر ، وروي هذا عن السدي وعن الحسن ضراري ، وعن بعض فراقي ، والكل متقارب ، وهو فاعل ـ يجرمنكم ـ والكاف مفعوله الأول ، وقوله سبحانه : (أَنْ يُصِيبَكُمْ) مفعوله الثاني ، وقد جاء تعدي ـ جرم ـ إلى مفعولين كما جاء تعديها لواحد وهي مثل كسب في ذلك ، ومن الأول قوله :