وعنه «وما يستغفر» على حكاية الحال الماضية لا أن الاستغفار سوف يقع بعد يوم القيامة كما يتوهم مما سيأتي إن شاء الله تعالى ، والاستثناء مفرغ من أعم العلل أي لم يكن استغفاره عليهالسلام لأبيه ناشئا عن شيء من الأشياء إلا عن موعدة (وَعَدَها) أي إبراهيم عليهالسلام (إِيَّاهُ) أي أباه بقوله : (لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) [الممتحنة : ٤] ، وقوله : (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي) [مريم : ٤٧] فالوعد كان من إبراهيم عليهالسلام.
ويدل على ذلك ما روي عن الحسن ، وحماد الراوية ، وابن السميفع ، وابن نهيك ، ومعاذ القارئ أنهم قرءوا «وعدها أباه» بالموحدة ، وعد ذلك أحد الأحرف الثلاث (١) التي صحفها ابن المقفع في القرآن مما لا يلتفت إليه بعد قراءة غير واحد من السلف به وإن كانت شاذة. وحاصل معنى الآية ما كان لكم الاستغفار بعد التبين واستغفار إبراهيم عليه الصلاة والسلام إنما كان عن موعدة قبل التبين ، ومآله أن استغفار إبراهيم عليهالسلام كان قبل التبين وينبئ عن ذلك قوله تعالى : (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ) أي لإبراهيم عليهالسلام (أَنَّهُ) أي إن أباه (عَدُوٌّ لِلَّهِ) أي مستمر على عداوته تعالى وعدم الإيمان به وذلك بأن أوحى إليه عليهالسلام أنه مصرّ على الكفر. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وجماعة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن ذلك التبين كان بموته كافرا وإليه ذهب قتادة ، وقيل : والأنسب بوصف العداوة هو الأول والأمر فيه هين.
(تَبَرَّأَ مِنْهُ) أي قطع الوصلة بينه وبينه ، والمراد تنزه عن الاستغفار له وتجانب كل التجانب ، وفيه من المبالغة ما ليس في تركه ونظائره (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ) أي لكثير التأوه ، وهو عند جماعة كناية عن كمال الرأفة ورقة القلب.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم ، وغيرهما عن عبد الله بن شداد قال : قال رجل : يا رسول الله ما الأوّاه؟ قال : الخاشع المتضرع الدعاء. وأخرج أبو الشيخ عن زيد بن أسلم أنه الدعاء المستكن إلى الله تعالى كهيئة المريض المتأوه من مرضه وهو قريب مما قبله : وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ومجاهد ، وقتادة ، وعطاء ، والضحاك ، وعكرمة إنه الموقن بلغة الحبشة ، وعن عمرو بن شرحبيل أنه الرحيم بتلك اللغة وأطلق ابن مسعود تفسيره بذلك ، وعن الشعبي أنه المسبح. وأخرج البخاري في تاريخه أنه الذي قلبه معلق عند الله تعالى. وأخرج البيهقي في شعب الإيمان وغيره عن كعب أن إبراهيم وصف بالأواه لأنه كان إذا ذكر النار قال أوه من النار أوه. وأخرج أبو الشيخ عن أبي الجوزاء مثله ، وإذا صح تفسير رسول الله صلىاللهعليهوسلم له لا ينبغي العدول عنه. نعم ما ذهب إليه الجماعة غير مناف له ومناسبته لما نحن فيه ظاهرة كما لا يخفى ، وقد صرح غير واحد أنه فعال للمبالغة من التأوه ، وقياس فعله أن يكون ثلاثيا لأن أمثلة المبالغة إنما يطرد أخذها منه ، وحكى قطرب له فعلا ثلاثيا فقال : يقال آه يئوه كقام يقوم أوها وأنكره عليه غيره وقال : لا يقال إلا أوه وتأوه قال المثقب العبدي :
إذا ما قمت أرحلها بليل |
|
تأوه آهة الرجل الحزين |
وأصل التأوه قوله آه ونحوه مما يقوله الحزين. وفي الدرة للحريري أن الأفصح أن يقال في التأوه أوه بكسر الهاء وضمها وفتحها والكسر أغلب ، وعليه قول الشاعر :
فأوه لذكراها إذا ما ذكرتها |
|
ومن بعد أرض بيننا وسماء |
وقد شدد بعضهم الواو وأسكن الهاء فقال أوه ، وقلب بعضهم الواو ألفا فقال آه ، ومنهم من حذف الهاء وكسر الواو فقال أو ثم ذكر أن تصريف الفعل من ذلك أوه وتأوه وأن المصدر الآهة والأهة وإن من ذلك قول المثقب السابق
__________________
(١) ثانيها في عزة وشقاق حيث قرأ غرة بالمعجمة وثالثها شان يغنيه حيث قرأ يعنيه بالياء المفتوحة والعين المهملة ا ه منه