فضلهم وبقاياهم إذا حضضوا على النهي وندموا على الترك فهم أولى بالتحضيض والتنديم ، وفيه مع ذلك الدلالة على خلوهم عن الاسم لخلوهم عن الخبر لأن ذا البقية لا يكون إلّا ناهيا فإذا انتفى اللازم انتفى الملزوم وهو من باب ولا ترى الضب بها ينجحر وقولك : ما كان شجعانهم يحمون عن الحقائق في معرض الذم تريد أن لا شجاع ولا حماية لكن بالغت في الذم حتى خيلت أنه لو كان لهم شجاع كان كالعدم فهذا هو الوجه الكريم والمطابق لبلاغة القرآن العظيم انتهى ، وهو تحقيق دقيق أنيق.
وادعى بعضهم أن الظاهر أن (كانَ) تامة ، و (أُولُوا بَقِيَّةٍ) فاعلها ، وجملة (يَنْهَوْنَ) صفته ، و (مِنَ الْقُرُونِ) حال متقدمة عليه ، و (مِنَ) تبعيضية ، و (مِنْ قَبْلِكُمْ) حال من (الْقُرُونِ) ، ويجوز أن يكون صفة لها أي الكائنة بناء على رأي من جوز حذف الموصول مع بعض صلته ، واعترض بأنه يلزم منه كون التحضيض على وجود أولئك فيهم وكذا يلزم كون المنفي ذلك وليس بذاك بل المدار على النهي تحضيضا ونفيا ، والتزام توجه الأمرين إليه لكون الصفة قيدا في الكلام ؛ والاستعمال الشائع توجه نحو ما ذكر إلى القيد كما قيل زيادة نغمة في الطنبور من غير طرب ، ومثله يعد من النصب (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا) وهم تاركو النهي عن الفساد.
(ما أُتْرِفُوا فِيهِ) ما أنعموا فيه من الثروة والعيش الهنيء والشهوات الدنيوية ، وأصل الترف التوسع في النعمة.
وعن الفراء معنى أترف عود الترفة وهي النعمة ، وقيل : (أُتْرِفُوا) أي طغوا من أترفته النعم إذا أطغته ـ ففي ـ إما سببية أو ظرفية مجازية ، وتعقب بأن هذا المعنى خلاف المشهور وإن صح هنا ؛ ومعنى اتباع ذلك الاهتمام به وترك غيره أي اهتموا بذلك (وَكانُوا مُجْرِمِينَ) أي مرتكبي جرائم غير ذلك ، أو كافرين متصفين بما هو أعظم الإجرام ، ولكل من التفسيرين ذهب بعض ، وحمل بعضهم (الَّذِينَ ظَلَمُوا) على ما يعم تاركي النهي عن الفساد والمباشرين له ، ثم قال : وأنت خبير بأنه يلزم من التحضيض بالأولين عدم دخول مباشري الفساد في الظلم والإجرام عبارة ، ولعل الأمر في ذلك هين فلا تغفل ، والجملة عند أبي حيان مستأنفة للإخبار عن حال هؤلاء (الَّذِينَ ظَلَمُوا) وبيان أنهم مع كونهم تاركي النهي عن الفساد كانوا ذوي جرائم غير ذلك.
وجوز بعض المحققين أن تكون عطفا على مقدر دلّ عليه الكلام أي لم ينهوا (وَاتَّبَعَ) إلخ.
وقيل : التقدير إلّا قليلا ممن أنجينا منهم نهوا عن الفساد (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ) إلخ ، وأن تكون استئنافا يترتب على قوله سبحانه : (إِلَّا قَلِيلاً) أي إلّا قليلا ممن أنجينا منهم نهوا عن الفساد (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا) من مباشري الفساد وتاركي النهي عنه ، وجعل الإظهار على هذا مقتضى الظاهر ، وعلى الأول لإدراج المباشرين مع التاركين في الحكم والتسجيل عليهم بالظلم وللإشعار بعلية ذلك لما حاق بهم من العذاب.
وفي الكشاف ما يقضي ظاهره بأن العطف على نهوا الواقع خبر لكن فيلزم أن يكون المعطوف خبرا أيضا مع خلوه عن الرابط ، وأجيب تارة بأنه في تأويل سائرهم أو مقابلوهم وأخرى بأن نهوا جملة مستأنفة استؤنفت بعد اعتبار الخبر فعطف عليها ، وفي ذلك ما فيه ، وقوله تعالى : (وَكانُوا مُجْرِمِينَ) عطف على (اتَّبَعَ الَّذِينَ) إلخ مع المغايرة بينهما ، وجوز أن يكون العطف تفسيريا على معنى (وَكانُوا مُجْرِمِينَ) بذلك الاتباع ، وفيه بعد ، وأن يكون على (أُتْرِفُوا) على معنى اتبعوا الأتراف وكونهم مجرمين لأن تابع الشهوات مغمور بالآثام ، أو أريد بالإجرام إغفالهم للشكر ، وتعقبه صاحب التقريب بقوله : وفيه نظر لأن ما في (ما أُتْرِفُوا) موصولة لا مصدرية لعود الضمير من (فِيهِ) إليه ، فكيف يقدر (كانُوا) مصدرا إلّا أن يقال : يرجع الضمير إلى الظلم بدلالة (ظَلَمُوا) فتكون (ما) مصدرية وأن تكون الجملة اعتراضا بناء على أنه قد يكون في آخر الكلام عند أهل المعاني.