إن تذنبوا ثم يأتيني بقيتكم |
|
فما علي بذنب عندكم فوت |
ومنه قولهم : في الزوايا خبايا وفي الرجال بقايا ، وجوز أن تكون البقية بمعنى البقوى كالتقية بمعنى التقوى أي فهلا كان منهم ذوو إبقاء لأنفسهم وصيانة لها عما يوجب سخط الله تعالى وعقابه ، والظاهر أنها على هذا مصدر ، وقيل : اسم مصدر ، ويؤيد المصدرية أنه قرئ «بقية» بزنة المرة وهو مصدر بقاه يبقيه كرماه يرميه بمعنى انتظره وراقبه. وفي الحديث عن معاذ بن جبل قال : «بقينا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وقد تأخر عن صلاة العشاء حتى ظن الظان أنه ليس بخارج» الخبرأراد معاذ انتظرناه ، وأما الذي من البقاء ضد الفناء ففعله بقي يبقى كرضي يرضى ، والمعنى على هذه القراءة فهلا كان منهم ذوو مراقبة لخشية الله تعالى وانتقامه ، وقرئ «بقية» بتخفيف الياء اسم فاعل من بقي نحو شجيت فهي شجية».
وقرأ أبو جعفر وشيبة «بقية» بضم الباء وسكون القاف (يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ) الواقع فيما بينهم حسبما ذكر في قصصهم ، وفسر الفساد في البحر بالكفر وما اقترن به من المعاصي (إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ) استثناء منقطع أي ولكن قليلا منهم أنجيناهم لكونهم كانوا ينهون ، وقيل أي : ولكن قليلا ممن أنجينا من القرون نهوا عن الفساد وسائرهم تاركون للنهي ، و (مِنَ) الأولى بيانية لا تبعيضية لأن النجاة إنما هي للناهين وحدهم بدليل قوله سبحانه : (أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا) [الأعراف : ١٦٥] وإلى ذلك ذهب الزمخشري ، ومنع اتصال الاستثناء على ما عليه ظاهر الكلام لاستلزامه فساد المعنى لأنه يكون تحضيضا ـ لأولي البقية ـ على النهي عن الفساد إلّا للقليل من الناجين منهم ، ثم قال : وإن قلت : في تحضيضهم على النهي عن الفساد معنى نفيه عنهم فكأنه قيل : ما كان من القرون أولو بقية إلّا قليلا كان استثناء متصلا ومعنى صحيحا وكان انتصابه على أصل الاستثناء وإن كان الأفصح أن يرفع على البدل ، والحاصل أن في الكلام اعتبارين : التحضيض والنفي ، فإن اعتبر التحضيض لا يكون الاستثناء متصلا لأن المتصل يسلب ما للمستثنى منه عن المستثنى أو يثبت له ما ليس له ، والتحضيض معناه لم ما نهوا ، ولا يجوز أن يقال : إلّا قليلا فإنهم لا يقال لهم : لم ما نهوا لفساد المعنى لأن القليل ناهون وإن اعتبر النفي كان متصلا لأنه يفيد أن القليل الناجين ناهون ، وأورد على ذلك القطب أن صحة السلب أو الإثبات بحسب اللفظ لازم في الخبر وأما في الطلب فيكون بحسب المعنى فإنك إذا قلت : اضرب القوم إلّا زيدا فليس المعنى على أنه ليس اضرب بل على أن القوم مأمور بضربهم إلّا زيدا فإنه غير مأمور به فكذا هنا يجوز أن يقال : (أُولُوا بَقِيَّةٍ) محضوضون على النهي (إِلَّا قَلِيلاً) فإنهم ليسوا محضوضين عليه لأنهم نهوا فالاستثناء متصل قطعا كما ذهب إليه بعض السلف ، وقد يدفع ما أورده بأن مقتضى الاستثناء أنهم غير محضوضين ، وذلك إما لكونهم نهوا أو لكونهم لا يحضون عليه لعدم توقعه منهم ، فإما أن يكون قد جعل احتمال الفساد إفسادا أو ادّعى أنه هو المفهوم من السياق ، ثم إن المدقق صاحب الكشف قال : إن ظاهر تقرير كلام الزمخشري يشعر بأن (يَنْهَوْنَ) خبر (كانَ) جعل (مِنَ الْقُرُونِ) خبرا آخر أو حالا قدمت لأن تحضيض ـ أولي البقية ـ على النهي على ذلك التقدير حتى لو جعل صفة ، و (مِنَ الْقُرُونِ) خبرا كان المعنى تنديم أهل القرون على أن لم يكن فيهم أولو بقية ناهون وإذا جعل خبرا لا يكون معنى الاستثناء ما كان من القرون أولو بقية إلّا قليلا بل كان ما كان منهم أولو بقية ناهين إلّا قليلا فإنهم نهوا وهو فاسد ، والانقطاع على ما آثره الزمخشري أيضا يفسد لما يلزم منه أن يكون أولو بقية غير ناهين لأن في التحضيض والتنديم دلالة على نفيه عنهم ، فالوجه أن يؤوّل بأن المقصود من ذكر الاسم الخبر وهو كالتمهيد له كأنه قيل : فلولا كان من القرون من قبلكم ناهون إلّا قليلا ، وفي كلامه إشارة إلى أنه لا يختلف نفي الناهي ، وأولو البقية ، وإنما عدل إلى المنزل مبالغة لأن أصحاب