التكليف بالتوبة التي كلف بها تكليفا مستمرا ، وقريب من هذا ارتفاع الإثم عن النائم إذا أخرج الصلاة عن وقتها مع الأمر بقضائها ، وما روي من حديث أبي هريرة إنما ورد في أمر خاص فلا يتعداه إذ الأصل بقاء ما عداه على عمومه وهذا مما لا مجال للقياس فيه حتى يخص بالقياس على ذلك فلا يليق نسبة ذلك القائل إلى الجهل ، والرجاء بالله تعالى شأنه قوي كذا قيل ، وفي المقام بعد أبحاث تركنا ذكرها خوف الإملال فإن أردتها فعليك بالنظر في الكتب المفصلة في علم الحديث.
(ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ) أي عظة للمتعظين ، وخصهم بالذكر لأنهم المنتفعون بها ، والإشارة إلى ما تقدم من الوصية بالاستقامة والنهي عن الطغيان والركون إلى الذين ظلموا وإقامة الصلوات في تلك الأوقات بتأويل المذكور. وإلى هذا ذهب الزمخشري واستظهر أبو حيان كون ذلك إشارة إلى إقامة الصلاة وأمر التذكير سهل ، وقيل : هي إشارة إلى الإخبار بأن الحسنات يذهبن السيئات ، وقال الطبري : إشارة إلى الأوامر والنواهي في هذه السورة ، وقيل : إلى القرآن ، وبعض من جعل الإشارة إلى الإقامة فسر الذكرى بالتوبة (وَاصْبِرْ) أي على مشاق امتثال ما كلفت به ، في الكشاف أن هذا كرور منه تعالى إلى التذكير بالصبر بعد ما جاء بما هو خاتمة للتذكير لفضل خصوصية ومزية وتنبيه على مكان الصبر ومحله كأنه قال : وعليك بما هو أهم مما ذكرت به وأحق بالتوصية وهو الصبر على امتثال ما أمرت به والانتهاء عما نهيت عنه فلا يتم شيء منه إلّا به انتهى.
ووجه كونه كريرا إلى ما ذكر بأن الأمر بالاستقامة أمر بالثبات قولا وفعلا وعقدا وهو الصبر على طاعة الله تعالى ويتضمن الصبر عن معصيته ضرورة على أن ما ذكره سبحانه كله لا يتم إلّا بالصبر ففي ضمن الأمر به أمر بالصبر ، واعترض اعتبار الانتهاء عما نهى عنه من متعلقات الصبر إذ لا مشقة في ذلك ، واعتذر عن ذلك بأنه يمكن أن يراد بما نهى عنه من الطغيان والركون ما لا يمكن عادة خلو البشر عنه من أدنى ميل بحكم الطبيعة من الاستقامة المأمور بها ومن يسير ميل بحكم البشرية إلى من وجد منه ظلم فإن في الاحتراز عن أمثاله من المشقة ما لا يخفى ، وتعقب بأن ما هو من توابع الطبيعة لا يكون من متعلقات النهي ، ولهذا ذكروا أن حب المسلم لولده الكافر مثلا لا إثم فيه ، فالأولى أن يقال : إن وجود المشقة في امتثال مجموع ما كلف به يكفي في الغرض ، وقيل : المراد من الصبر المأمور به المداومة على الصلاة كأنه قيل : أقم الصلاة أي أدّها تامة ودوام عليها نظير قوله تعالى : (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها) [طه : ١٣٢] (فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) أي يوفيهم ثواب أعمالهم من غير بخس أصلا ، وعبر عن ذلك بنفي الإضاعة بيانا لكمال نزاهته تعالى عن حرمانهم شيئا من ثوابهم ، وعدل عن الضمير ليكون كالبرهان على المقصود مع إفادة فائدة عامة لكل من يتصف بذلك وهو تعليل للأمر بالصبر ، وفيه إيماء إلى أن الصبر على ما ذكر من باب الإحسان ، وعن مقاتل أنه فسر الإحسان هنا بالإخلاص.
وعن ابن عباس أنه قال : المحسنون المصلون وكأنه نظر إلى سياق الكلام ، هذا ومن البلاغة القرآنية أن الأوامر بأفعال الخير أفردت للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم وإن كانت عامة في المعنى ، والمناهي جمعت للأمة ، وما أعظم شأن الرسول عليه الصلاة والسلام عند ربه جلّ وعلا (فَلَوْ لا كانَ) تحضيض فيه معنى التفجع مجازا أي فهلا كان (مِنَ الْقُرُونِ) أي الأقوام المقترنة في زمان واحد (مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ) أي ذوو خصلة باقية من الرأي والعقل أو ذوو فضل على أن يكون ـ البقية ـ اسما للفضل والهاء للنقل ، وأطلق عليه ذلك على سبيل الاستعارة من البقية التي يصطفيها المرء لنفسه ويدخرها مما ينفعه ، ومن هنا يقال : فلان من بقية القوم أي من خيارهم ، وبذلك فسر بيت الحماسة :