عليهالسلام علم أن الله تعالى يصون يوسف عن البلاء والمحنة وأن أمره سيعظم بالآخرة ثم لم يرد هتك ستر أولاده وما رضي بإلقائهم في ألسنة الناس ، وذلك لأن أحد الولدين إذا ظلم الآخر وقع الأب في العذاب الشديد لأنه إن لم ينتقم يحترق قلبه على الولد المظلوم وإن انتقم يحترق على الولد الذي ينتقم منه ، ونظير ذلك ما أشار إليه الشاعر بقوله :
قومي هم قتلوا أميم أخي |
|
فإذا رميت يصيبني سهمي |
ولئن عفوت لأعفون جللا |
|
ولئن سطوت لموهن عظمي |
فلما وقع يعقوب عليهالسلام في هذه البلية رأى أن الأصوب الصبر والسكوت وتفويض الأمر بالكلية إلى الله تعالى لا سيما إن قلنا : إنه عليهالسلام كان عالما بأن ما وقع لا يمكن تلافيه حتى يبلغ الكتاب أجله. (وَجاءَتْ) شروع فيما جرى على يوسف عليهالسلام في الجب بعد الفراغ عن ذكر ما وقع بين إخوته وبين أبيه أي وجاءت إلى الجب (سَيَّارَةٌ) رفقة تسير من جهة مدين إلى مصر وكان ذلك بعد ثلاثة أيام مضت من زمن إلقائه في قول ، وقيل : في اليوم الثاني ، والظاهر أن الجب كان في طريق سيرهم المعتاد.
وقيل : إنه كان في قفرة بعيدة من العمران فأخطئوا الطريق فأصابوه (فَأَرْسَلُوا) إليه (وارِدَهُمْ) الذي يرد الماء ويستقي لهم وكان ذلك مالك بن ذعر الخزاعي.
وقال ابن عطية : الوارد هنا يمكن أن يقع على الواحد وعلى الجماعة ا ه والظاهر الأول ، والتأنيث في (جاءَتْ) والتذكير في (فَأَرْسَلُوا) و (وارِدَهُمْ) باعتبار اللفظ والمعنى ، وفي التعبير بالمجيء إيماء إلى كرامة يوسف عليهالسلام عند ربه سبحانه ، وحذف متعلقه وكذا متعلق الإرسال لظهوره ولذا حذف المتعلق في قوله سبحانه : (فَأَدْلى دَلْوَهُ) أي أرسلها إلى الجب ليخرج الماء ، ويقال : دلا الدلو إذا أخرجها ملأى ، والدلو من المؤنثات للسماعية فتصغر على دلية وتجمع على أدل ودلاء ودلى.
وقال ابن الشحنة : إن الدلو التي يستقى بها مؤنثة وقد تذكر ، وأما الدلو مصدر دلوت وضرب من السير فمذكر ومثلها في التذكير والتأنيث الجب عند الفراء على ما نقله عن محمد بن الجهم ، وعن بعضهم أنه مذكر لا غير وأما البئر مؤنثة فقط في المشهور ، ويقال في تصغيرها : بويرة ؛ وفي جمعها آبار وأبار وأبؤر وبئار وفي الكلام حذف أي فأدلى دلوه فتدلى بها يوسف فخرج (قالَ) استئناف مبني على سؤال يقتضيه الحال (يا بُشْرى هذا غُلامٌ) نادى البشرى بشارة لنفسه أو لقومه ورفقته كأنه نزلها منزلة شخص فناداه فهو استعارة مكنية وتخييلية أي يا بشرى تعالى فهذا أو إن حضورك ، وقيل : المنادى محذوف كما في يا ليت أي يا قومي انظروا واسمعوا بشراي ، وقيل : إن هذه الكلمة تستعمل للتبشير من غير قصد إلى النداء.
وزعم بعضهم أن بشرى اسم صاحب له ناداه ليعينه على إخراجه ، وروي هذا عن السدي ـ وليس بذاك ـ وقرأ غير الكوفيين ـ يا بشراي ـ بالإضافة ، وأمال فتحة الراء حمزة والكسائي ، وقرأ ورش بين اللفظين.
وروي عن نافع أنه قرأ ـ يا بشراي ـ بسكون ياء الإضافة ويلزمه التقاء الساكنين على غير حده ، واعتذر بأنه أجرى الوصل مجرى الوقف ونظائر ذلك كثيرة في القرآن وغيره ، وقيل : جاز ذلك لأن الألف لمدها تقوم مقام الحركة ، وقرأ أبو الطفيل والحسن وابن أبي إسحاق والجحدري «يا بشري» بقلب الألف ياء وإدغامها في ياء الإضافة ـ وهي لغة لهذيل ولناس غيرهم ـ ومن ذلك قول أبي ذؤيب :
سبقوا هوى وأعنقوا لهواهم |
|
فتخرموا ولكل جنب مصرع |