أصلا فلا صدق لها وذلك كما إذا قيل لك : بلغت الى زيد الكلام الفلاني في هذا اليوم؟ فقلت : إن كنت تكلمت في هذا اليوم مع زيد فقولكم هذا صادق مع أن تكلمك معه في هذا اليوم مطلقا لا يدل على صدق دعواهم لاحتمال أنك تكلمت معه بكلام غير ذلك الكلام لكنك قلت ذلك تحقيقا لعدم تبليغك ذلك الكلام إليه ، هذا وذكر شيخ مشايخنا العلامة صبغة الله الحيدري طيب الله تعالى ثراه : أن الظاهر أن دلالة كل من الشقين في الشقين على ما يدل عليه من حيث موافقته لما ادعاه صاحبه فإنها كانت تقول : هو طلبني مقبلا عليّ فخلصت نفسي عنه بالدفع أو الفرار وهو كان يقول : هي الطالبة ففررت منها وتبعتني واجتذبت ثوبي فقدته فوقوع الشق في شق الدبر يدل على كونه مدبرا عنها لا مقبلا عليها وعكسه على عكسه ، ثم فرع على هذا أن ما ذكره ابن الكمال غفلة عن المخاصمة بالمقاولة وهو توجيه لطيف للآية الكريمة ، بيد أن دعوى وقوع المخاصمة بالمقاولة على الطرز الذي ذكره رحمهالله تعالى مما لا شاهد لها ، وعلى المدعي البيان على أنه يبعد عقلا أن تقول هو طلبني مقبلا فخلصت نفسي منه فانقدّ قميصه من قبل وهو الذي تقتضيه دعواه أن الظاهر أن دلالة كل من الشقين إلخ لظهور أن ظهور كذبها حينئذ أسرع ما يكون ، وبالجملة قيل : إن الاحتمالات المضعفة لهذه المشاهدة كثيرة : منها ما علمت ، ومنها ما تعلمه بأدنى التفات ، ومن هنا قالوا : إن ذلك من باب اعتبار الأمارة ، ولذلك احتج بالآية كما قال ابن الفرس : من يرى الحكم من العلماء بالأمارات والعلامات فيما لا تحضره البينات كاللقطة ، والسرقة ، والوديعة ، ومعاقد الحيطان ، والسقوف وغير ذلك.
وذكر الإمام أن علامات كذب المرأة كانت كثيرة بالغة مبلغ اليقين فضموا إليها هذه العلامة الأخرى لا لأجل أن يعوّلوا في الحكم عليها بل لأجل أن يكون ذلك جاريا مجرى المقويات والمرجحات والله تعالى أعلم.
وقرأ الحسن ، وأبو عمرو في رواية «من قبل ، ومن دبر» بسكون الباء فيهما والتنوين وهي لغة الحجاز ، وأسد ، وقرأ أبو يعمر ، وابن أبي إسحاق ، والعطاردي ، وأبو الزناد ، وآخرون «من قبل ، ومن دبر» بثلاث ضمات ، وقرأ الأولان ، والجارود في رواية عنهم بإسكان الباء فيهما مع بنائهما على الضم جعلوهما ـ كقبل ، وبعد ـ بعد حذف المضاف إليه ونية معناه ، وتعقب ذلك أبو حاتم بأن هذا رديء في العربية وإنما يقع بعد البناء في الظروف ، وهذان اللفظان اسمان متمكنان وليسا بظرفين ، وعن ابن إسحاق أنه قرأ من ـ قبل ومن دبر ـ بالفتح قيل : كأنه جعلهما علمين للجهتين فمنعهما الصرف للعملية والتأنيث (١) باعتبار الجهة (فَلَمَّا رَأى) أي السيد ، وقيل : الشاهد ، والفعل من الرؤية البصرية أو القلبية أي فلما علم (قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ) أي هذا القد والشق كما قال الضحاك (مِنْ كَيْدِكُنَ) أي ناشئ من احتيالكن أيتها النساء ومكركن ومسبب عنه ، وهذا تكذيب لها وتصديق له عليهالسلام على ألطف وجه كأنه قيل : أنت التي راودته فلم يفعل وفرّ فاجتذبتيه فشققت قميصه فهو الصادق في إسناد المراودة إليك وأنت الكاذبة في نسبة السوء إليه ، وقيل : الضمير للأمر الذي وقع فيه التشاجر وهو عبارة عن إرادة السوء التي أسندت الى يوسف عليهالسلام وتدبير عقوبته بقولها (ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً) إلخ أي إن ذلك من جنس مكركن واحتيالكن ، وقيل : هو للسوء وهو نفسه وإن لم يكن احتيالا لكنه يلازمه ، وقال الماوردي : هو لهذا الأمر وهو طمعها في يوسف عليهالسلام ؛ وجعله من الحيلة مجاز أيضا كما في الوجه الذي قبله ، وقال الزجاج : هو لقولها (ما جَزاءُ) إلخ فقط (٢) ، واختار العلامة أبو السعود القيل الأول وتكلف له بما تكلف واعترض على ما بعده من الأقوال بما اعترض.
__________________
(١) قيل : وكأنه علم جنس وفيه نظر ا ه فتأمل ا ه منه.
(٢) لم يجعل هؤلاء من سببية كما أشرنا إليه ا ه منه.