ولعل ما ذكرناه أقرب للذوق وأقل مئونة مما تكلف له ؛ وأيا ما كان فالخطاب عام للنساء مطلقا وكونه لها ولجواريها ـ كما قيل ـ ليس بذاك ، وتعميم الخطاب للتنبيه على أن الكيد خلق لهن عريق :
ولا تحسبا هندا لها الغدر وحدها |
|
سجية نفس كل غانية هند (١) |
(إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) فإنه ألطف وأعلق بالقلب وأشد تأثيرا في النفس ولأن ذلك قد يورث من العار ما لا يورثه كيد الرجال ، ولربات القصور منهن القدح المعلى من ذلك لأنهن أكثر تفرغا من غيرهن مع كثرة اختلاف الكيادات إليهن فهن جوامع كوامل ، ولعظم كيد النساء (٢) اتخذهن إبليس عليه اللعنة وسائل لإغواء من صعب عليه إغواؤه ، ففي الخبر «ما أيس الشيطان من أحد إلا أتاه من جهة النساء» وحكي عن بعض العلماء أنه قال : أنا أخاف من النساء ما لا أخاف من الشيطان فإنه تعالى يقول : (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً) [النساء : ٧٦] وقال للنساء : (إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) ولأن الشيطان يوسوس مسارقة وهن يواجهن به ، ولا يخفى أن استدلاله بالآيتين مبني على ظاهر إطلاقهما ، ومثله مما تنقبض له النفس وتنبسط يكفي فيه ذلك القدر فلا يضر كون ضعف كيد الشيطان إنما هو في مقابلة كيد الله تعالى ، وعظم كيدهن إنما هو بالنسبة الى كيد الرجال ، وما قيل : إن ما ذكر لكونه محكيا عن قطفير ـ لا يصلح للاستدلال به بوجه من الوجوه ـ ليس بشيء لأنه سبحانه قصه من غير نكير فلا جناح في الاستدلال به كما لا يخفى (يُوسُفُ) حذف منه حرف النداء لقربه وكمال تفطنه للحديث ، وفي ندائه باسمه تقريب له عليهالسلام وتلطيف.
وقرأ الأعمش «يوسف» بالفتح ، والأشبه على ما قال أبو البقاء : أن يكون أخرجه على أصل المنادى كما جاء في الشعر يا عديا لقد وقتك الأواقي وقيل : لم تضبط هذه القراءة عن الأعمش ، وقيل : إنه أجرى الوقف مجرى الوصل ونقل إلى الفاء حركة الهمزة من قوله تعالى : (أَعْرِضْ عَنْ هذا) أي عن هذا الأمر واكتمه ولا تتحدث به فقد ظهر صدقك وطهارة ثوبك ، وهذا كما حكى الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله بالوصل والفتح ، وقرئ «أعرض» بصيغة الماضي فيوسف حينئذ مبتدأ والجملة بعده خبر ، ولعل المراد الطلب على أتم وجه فيؤول الى معنى (أَعْرِضْ وَاسْتَغْفِرِي) أنت أيتها المرأة ، وضعف أبو البقاء هذه القراءة بأن الأشبه عليها أن يقال : فاستغفري (لِذَنْبِكِ) الذي صدر عنك وثبت عليك (إِنَّكِ كُنْتِ) بسبب ذلك (مِنَ الْخاطِئِينَ) أي من جملة القوم المتعمدين للذنب ، أو من جنسهم يقال : خطئ يخطئ خطأ وخطأ إذا أذنب متعمدا ، وأخطأ إذا أذنب من غير تعمد ، وذكر الراغب أن الخطأ العدول عن الجهة وهو أضرب : الأول أو يريد غير ما تحسن إراداته فيفعله ، وهذا هو الخطأ التام المأخوذ به الإنسان ، والثاني أن يريد ما يحسن فعله ولكن يقع منه خلاف ما يريد وهذا قد أصاب في الإرادة وأخطأ في الفعل ، ومن ذلك قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : «من اجتهد فأخطأ فله أجر» والثالث أن يريد ما لا يحسن فعله ويتفق منه خلافه فهذا مخطئ في الإرادة مصيب في الفعل ، ولا يخفى أن المعنى الذي ذكرناه راجع إلى الضرب الأول من هذه الضروب ، والجملة المؤكدة في موضع التعليل للأمر والتذكير لتغليب الذكور على الإناث واحتمال أن يقال : المراد إنك من نسل الخاطئين فمنهم سرى ذلك العرق الخبيث فيك بعيد جدا ، وهذا النداء قيل : من الشاهد الحكيم ، وروي ذلك عن ابن عباس ، وحمل الاستغفار على طلب المغفرة والصفح من الزوج ، ويحتمل أن يكون المراد به طلب المغفرة من الله تعالى ويقال : إن أولئك القوم وإن كانوا يعبدون الأوثان إلّا أنهم مع ذلك يثبتون الصانع ويعتقدون أن للقبائح
__________________
(١) هو لأبي تمام من قصيدة ا ه منه.
(٢) وهذا من كيده فافهم ا ه منه.