وقيل : إنه باعتبار المعطوف وهو الاستعصام كأنها نظمته لقوة الداعي إلى خلافه من كونه عليهالسلام في عنفوان الشباب ومزيد اختلاطه معها ومراودتها إياه مع ارتفاع الموانع فيما تظن في سلك ما ينكر ويكذب المخبر به فأكدته لذلك وهو كما ترى ، وفي الآية دليل على أنه عليهالسلام لم يصدر منه ما سود به القصاص وجوه الطروس ، وليت السدي لو كان قد سد فاه عن قوله : (فَاسْتَعْصَمَ) بعد حل سراويله ، ثم إنها بعد أن اعترفت لهن بما سمعنه وتحدثهن به وأظهرت من إعراضه عنها واستعصامه ما أظهرت ذكرت أنها مستمرة على ما كانت عليه لا يلويها عنها لوم ولا إعراض فقالت : (وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ) أي الذي آمر به فيما سيأتي كما لم يفعل فيما مضى ـ فما ـ موصولة والجملة بعدها صلة والعائد الهاء ، وقد حذف حرف الجر منه فاتصل بالفعل وهذا أمر شائع مع ـ أمر ـ كقوله :
أمرتك الخير فافعل ما أمرت به
ومفعول ـ أمر ـ الأول إما متروك لأن مقصودها لزوم امتثال ما أمرت به مطلقا كما قيل ، وإما محذوف لدلالة (يَفْعَلْ) عليه وهو ضمير يعود على يوسف أي ما آمره به.
وجوز أن يكون الضمير الموجود هو العائد على يوسف والعائد على الموصول محذوف أي به ، ويعتبر الحذف تدريجا لاشتراطهم في حذف العائد المجرور بالحرف كونه مجرورا بمثل ما جرّ به الموصول لفظا ومعنى ومتعلقا ، وإذا اعتبر التدريج في الحذف يكون المحذوف منصوبا ، وكذا يقال في أمثال ذلك.
وقال ابن المنير في تفسيره : إن هذا الجار مما أنس حذفه فلا يقدر العائد إلّا منصوبا مفصولا كأنه قيل : أمر يوسف إياه لتعذر اتصال ضميرين من جنس واحد ، ويجوز أن تكون (ما) مصدرية فالضمير المذكور ليوسف أي لئن لم يفعل أمري إياه ، ومعنى فعل الأمر فعل موجبه ومقتضاه فهو إما على الإسناد المجازي أو تقدير المضاف ، وعبرت عن مراودتها بالأمر إظهارا لجريان حكومتها عليه واقتضاء للامتثال لأمرها (لَيُسْجَنَنَ) بالنون الثقيلة آثرت بناء الفعل للمفعول جريا على رسم الملوك.
وجوز أن يكون إيهاما لسرعة ترتب ذلك على عدم امتثاله لأمرها كأنه لا يدخل بينهما فعل فاعل.
(وَلَيَكُوناً) بالمخففة (مِنَ الصَّاغِرِينَ) أي الأذلاء المهانين ، وهو من صغر كفرح ، ومصدر صغر بفتحتين ، وصغرا بضم فسكون ، وصغار بالفتح ، وهذا في القدر ، وأما في الجثة والجرم فالفعل صغر ككرم ، ومصدره صغر كعنب ، وجعل بعضهم الصغار مصدرا لهذا أيضا ، وكذا الصغر بالتحريك ، والمشهور الأول ، وأكدت السجن بالنون الثقيلة قيل : لتحققه ، وما بعده بالنون الخفيفة لأنه غير متحقق.
وقيل : لأن ذلك الكون من توابع السجن ولوازمه ، فاكتفت في تأكيده بالنون الخفيفة بعد أن أكدت الأول بالثقيلة ، وقرأت فرقة بالتثقيل فيهما وهو مخالف لرسم المصحف لأن النون رسمت فيه بالألف ـ كنسفعا ـ على حكم الوقف وهي يوقف عليها بالألف كما في قول الأعشى
ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا |
|
وذلك في الحقيقة لشبهها |
بالتنوين لفظا لكونها نونا ساكنة مفردة تلحق الآخر ، واللام الداخلة على حرف الشرط موطئة للقسم وجوابه سادّ مسدّ الجوابين ، ولا يخفى شدة ما توعدت به كيف وأن للذل تأثيرا عظيما في نفوس الأحرار وقد يقدمون الموت عليه وعلى ما يجرّ إليه ، قيل : ولم تذكر العذاب الأليم الذي ذكرته في (ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً) [يوسف : ٢٥] إلخ لأنها إذ ذاك كانت في طراوة غيظها ومتنصلة من أنها هي التي راودته فناسب هناك التغليظ بالعقوبة ، وأما هنا فإنها في طماعية ورجاء ، وإقامة عذرها عند النسوة فرقت عليه فتوعدته بالسجن وما هو من فروعه ومستتبعاته ، وقيل : إن قولها : (لَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ) إنما أتت به بدل قولها هناك : (عَذابٌ أَلِيمٌ) ذله بالقيد أو بالضرب أو بغير ذلك ،