بصدده ، وقد يقال : يجوز عود الضمير إلى ما قصاه ويكون المراد من الطعام المرزوق ما رأياه في النوم ، ولا يخفى ما فيه أيضا لكن التأويل على هذين الوجهين لا يحتاج إلى التأويل بل يراد منه ما أريد من تأويله في كلامهما ، وكذا الضمير المستتر في (يَأْتِيكُما) يعود على الطعام وعوده على التأويل وإن كان أقرب بعيد ، ثم إنه عليهالسلام أخبرهما بأن علمه ذلك ليس من علوم الكهنة والمنجمين بل هو فضل إلهي يؤتيه من يشاء فقال : (ذلِكُما) ويروى أنهما قالا له : من أين لك ما تدعيه من العلم وأنك لست بكاهن ولا منجم؟! وقيل : قالا إن هذا كهانة أو تنجيم ، فقال : أي ذلك التأويل ، والكشف عن المغيبات ، ومعنى البعد في ذلك للإشارة إلى بعد منزلته وعلو درجته (مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي) بالوحي أو بنحو ذلك مما يحصل به العلم كما يكون للأولياء أهل الكشف رضي الله تعالى عنهم ، واقتصر بعضهم على الأول وادعى أن الآية دليل على أنه عليهالسلام كان إذ ذاك نبيا ، وأيا ما كان فالمراد أن ذلك بعض مما علمنيه الله تعالى أو من ذلك الجنس الذي لا يناله إلّا الأصفياء ، ولقد دلهما بذلك على أن له علوما جمة ما سمعاه قطرة من تيارها وزهرة من أزهارها ؛ وقوله : (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ) استئناف وقع جوابا عن سؤال نشأ مما تقدم وتعليلا له كأنه قيل : لما ذا علمك ربك تلك العلوم الجليلة الشأن؟ فقال : لأني تركت دين الكفر الذي اجتمعوا عليه من الشرك وعبادة الأوثان.
وقيل : تعليل للتعليم الواقع صلة وهو يؤدي إلى معنى أنه مما علمني ربي لهذا السبب دون غيره وليس بمراد.
وقيل : لمضمون الجملة الخبرية ، وفيه أن ما ذكر ليس بعلة لكون التأويل المذكور بعضا مما علمه ربه ـ أو لكونه من جنسه ـ بل لنفس التعليم ، والمراد بالترك الامتناع فإنه لم يتلوث بتلك قط كما يفصح عنه ما يأتي من كلامه عليهالسلام قريبا إن شاء الله تعالى لكن عبر به عن ذلك استجلابا لهما لأن يتركا تلك الملة التي هم عليها على أحسن وجه ؛ والتعبير عن كفرهم بالله تعالى بسلب الإيمان به سبحانه للتنصيص على أن عبادتهم له تعالى مع عبادة الأوثان ليس بإيمان به تعالى كما يزعمونه ، وأراد بأولئك القوم المتصفين بعنوان الصلة حيث كانوا ، وقيل : أهل مصر فإنهم كانوا عبدة إذ ذاك (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ) وما فيها من الجزاء (هُمْ كافِرُونَ) أي على الخصوص دون غيرهم من الكنعانيين الذين هم ملة إبراهيم عليهالسلام على ما يفيده توسيط ضمير الفصل هنا عند البعض ، وذكر أن تقديم الضمير للتخصيص وتكريره للتأكيد ، ولعله إنما أكد إنكارهم للمعاد لأنه كان أشد من إنكارهم للمبدإ فتأمل.
(وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) داخل في حيز التعليل كأنه قال : إنما فزت بما فزت بسبب أني لم أتبع ملة قوم كفروا بالمبدإ والمعاد واتبعت ملة آبائي الكرام المؤمنين بذلك ، وإنما قاله عليهالسلام ترغيبا لصاحبيه في الإيمان والتوحيد وتنفيرا لهما عما كانا عليه من الشرك والضلال ، وقدم ذكر تركه لملتهم على ذكر اتباعه لملة آبائه عليهمالسلام لأن التخلية مقدمة على التحلية.
وجوز بعضهم أن لا يكون هناك تعليل وإنما الجملة الأولى مستأنفة ذكرت تمهيدا للدعوة والثانية إظهارا لأنه من بيت النبوة لتقوى الرغبة فيه ، وفي كلام أبي حيان ما يقتضي أنه الظاهر وليس بذاك ، وقرأ الأشهب العقيلي والكوفيون «آبائي» بإسكان الياء وهي مروية عن أبي عمرو (ما كانَ) ما صح وما استقام فضلا عن الوقوع (لَنا) معاشر (١) الأنبياء لقوة نفوسنا ، وقيل : أي أهل هذا البيت لوفور عناية الله تعالى بنا (أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ) أي شيئا أي شيء كان من ملك أو جني أو إنسي فضلا عن الصنم الذي لا يسمع ولا يبصر ـ فمن ـ زائدة في المفعول به لتأكيد
__________________
(١) قيل : يراد معاشر الأنبياء ، ويعتبر التغليب بناء على عدم نبوته عليهالسلام إذ ذاك وهو كما ترى ا ه منه.