وعن الجنيد قدسسره قال : إنه سبحانه اشترى منك ما هو صفتك وتحت تصرفك والقلب تحت صفته وتصرفه لم تقع المبايعة عليه ، ويشير إلى ذلك قوله صلىاللهعليهوسلم : «قلب ابن آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن» ، وذكر بعض أرباب التأويل أنه تعالى لما اشترى الأنفس منهم فذاقوا بالتجرد عنها حلاوة اليقين ولذة الترك ورجعوا عن مقام لذة النفس وتابوا عن هواها ولم يبق عندهم لجنّة النفس التي كانت ثمنا قدر وصفهم بالتائبين فقال سبحانه : (التَّائِبُونَ) أي الراجعون عن طلب ملاذ النفس وتوقع الأجر إليه تعالى وبلفظ آخرهم قوم رجعوا من غير الله إلى الله واستقاموا بالله تعالى مع الله تعالى. (الْعابِدُونَ) أي الخاضعون المتذللون لعظمته وكبريائه تعالى تعظيما وإجلالا له جل شأنه لا رغبة في ثواب ولا رهبة من عقاب وهذه أقصى درجات العبادة ويسميها بعضهم عبودة (الْحامِدُونَ) بإظهار الكمالات العملية والعلمية حمدا فعليا حاليا وأقصى مراتب الحمد إظهار العجز عنه. يروى أن داود عليهالسلام قال : يا رب كيف أحمدك والحمد من آلائك فأوحى الله تعالى إليه الآن حمدتني يا داود. وما أعلى كلمة نبينا صلىاللهعليهوسلم «اللهم لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» (السَّائِحُونَ) إليه تعالى بالهجرة عن مقام الفطرة ورؤية الكمالات الثابتة لهم في مفاوز الصفات ومنازل السبحات ، وقال بعض العارفين : السائحون هم السيارون بقلوبهم في الملكوت الطائرون بأجنحة المحبة في هواء الجبروت ، وقد يقال : هم الذين صاموا عن المألوفات حين عاينوا هلال جماله تعالى في هذه النشأة ولا يفطرون حتى يعاينوه مرة أخرى في النشأة الأخرى ، وقد امتثلوا ما أشار إليه صلىاللهعليهوسلم بقوله : «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته» (الرَّاكِعُونَ) في مقام محو الصفات (السَّاجِدُونَ) بفناء الذات ، وقال بعض العارفين: الراكعون هم العاشقون المنحنون من ثقل أوقار المعرفة على باب العظمة ورؤية الهيبة ، والساجدون هم الطالبون لقربه سبحانه. فقد جاء في الخبر «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد» وقد يقال : الراكعون الساجدون هم المشاهدون للحبيب السامعون منه ، وما أحسن ما قيل :
لو يسمعون كما سمعت كلامها |
|
خروا لعزة ركعا وسجودا |
(الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ) أي الداعون الخلق إلى الحق والدافعون لهم عما سواه ، فإن المعروف على الإطلاق هو الحق سبحانه والكل بالنسبة إليه عز شأنه منكر (وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ) أي المراعون أوامره ونواهيه سبحانه في جوارحهم وأسرارهم وأرواحهم أو الذين حفظوا حدود الله المعلومة فأقاموها على أنفسهم وعلى غيرهم ، وقيل : هم القائمون في مقام العبودية بعد كشف صفات الربوبية لهم فلا يتجاوزون ذلك وإن حصل لهم ما حصل فهم في مقام التمكين والصحو لا يقولون ما يقوله سكارى المحبة ولا يهيمون في أودية الشطحات.
وفي الآية نعي على أناس ادعوا الانتظام في سلك حزب الله تعالى وزمرة أوليائه وهم قد ضيعوا الحدود وخرقوا سفينة الشريعة وتكلموا بالكلمات الباطلة عند المسلمين على اختلاف فرقهم حتى عند السادة الصوفية فإنهم أوجبوا حفظ المراتب ، وقالوا : إن تضييعها زندقة.
وقد خالطتهم فرأيت منهم |
|
خبائث بالمهيمن نستجير |
ولعمري إن المؤمن من ينكر على أمثالهم فإياك أن تغتر بهم (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) بالإيمان الحقّ المقيمين في مقام الاستقامة واتباع الشريعة (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) أي ما صح منهم ذلك ولا استقام فإن الوقوف عند القدر من شأن الكاملين.
ومن هنا قيل : لا تؤثر همة العارف بعد كمال عرفانه أي إذا تيقن وقوع كل شيء بقدره تعالى الموافق للحكمة البالغة وأن ما شاء الله ما كان ولم يشأ لم يكن ولم يتهم الله سبحانه في شيء من الفعل والترك سكن تحت كهف