الأقدار وسلم لمدعي الإرادة وأنصت لمنادي الحكمة وترك مراده لمراد الحبيب بل لا يريد إلا ما يريده ، وهو الذي يقتضيه مقام العبودية المحضة الذي هو أعلى المقامات ودون ذلك مقام الإدلال ، ولقد كان حضرة مولانا القطب الرباني الشيخ عبد القادر الكيلاني قدسسره في هذا المقام وله كلمات تشعر بذلك لكن لم يتوف قدسسره حتى انتقل منه إلى مقام العبودية المحضة كما نقل مولانا عبد الوهاب الشعراني في الدرر واليواقيت ، وقد ذكر أن هذا المقام كان مقام تلميذه حضرة مولانا أبي السعود الشبلي قدسسره (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً) أي ليصفهم بالضلال عن طريق التسليم والانقياد لأمره والرضا بحكمه (بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ) إلى التوحيد العلمي ورؤية وقوع كل شيء بقضائه وقدره (حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ) أي ما يجب عليهم اتقاؤه في كل مقام من مقامات سلوكهم وكل مرتبة من مراتب وصولهم فإذا بين لهم ذلك فإن أقدموا في بعض المقامات على ما تبين لهم وجوب اتقائه أضلهم لارتكابهم ما هو ضلال في دينهم وإلا فلا (أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فيعلم دقائق ذنوبهم وإن لم يتفطن لها أحد.
(لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ) لا يخفى أن توبة الله سبحانه على كل من النبي عليه الصلاة والسلام ومن معه بحسب مقامه ، وذكر بعضهم أن التوبة إذا نسبت إلى العبد كانت بمعنى الرجوع من الزلات إلى الطاعات وإذا نسبت إلى الله سبحانه كانت بمعنى رجوعه إلى العباد بنعت الوصال وفتح الباب ورفع الحجاب (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ) وذلك لاستشعار سخط المحبوب (وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلَّا إِلَيْهِ) أي تحققوا ذلك فانقطعوا إليه سبحانه ورفعوا الوسائط (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ) حيث رأى سبحانه انقطاعهم إليه وتضرعهم بين يديه ، وقد جرت عادته تعالى مع أهل محبته إذا صدر منهم ما ينافي مقامهم بأدبهم بنوع من الحجاب حتى إذا ذاقوا طعم الجناية واحتجبوا عن المشاهدة وعراهم ما عراهم مما أنساهم دنياهم وأخراهم أمطر عليهم وابل سحاب الكرم وأشرق على آفاق أسرارهم أنوار القدم فيؤنسهم بعد يأسهم ويمن عليهم بعد قنوطهم (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا) ، وما أحلى قوله :
هجروا والهوى وصال وهجر |
|
هكذا سنّت الغرام الملاح |
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ) في جميع الرذائل بالاجتناب عنها (وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) نية وقولا وفعلا أي اتصفوا بما اتصفوا به من الصدق وقيل : خالطوهم لتكونوا مثلهم فكل قرين بالمقارن يقتدي.
وفسر بعضهم الصادقين بالذين لم يخلفوا الميثاق الأول فإنه أصدق كلمة ، وقد يقال : الأصل الصدق في عهد الله كما قال تعالى : (رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ) [الأحزاب : ٢٣] ثم في عقد العزيمة ووعد الخليقة كما قال سبحانه في إسماعيل : (إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ) [مريم : ٥٤] وإذا روعي الصدق في المواطن كلها كالخاطر والفكر والنية والقول والعمل صدقت المنامات والواردات والأحوال والمقامات والمواهب والمشاهدات فهو أصل شجرة الكمال وبذر ثمرة الأحوال وملاك كل خير وسعادة ؛ وضده الكذب فهو أسوأ الرذائل وأقبحها وهو منافي المروءة كما قالوا : لا مروءة لكذوب (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ) إشارة إلى أنه يجب على كل مستعد من جماعة سلوك طريق طلب العلم إذ لا يمكن لجميعهم أما ظاهرا فلفوات المصالح وأما باطنا فلعدم الاستعداد للجميع.
والفقه من علوم القلب وهي إنما تحصل بالتزكية والتصفية وترك المألوفات واتباع الشريعة. فالمراد من النفر السفر المعنوي وهذا هو العلم النافع ، وعلامة حصوله عدم خشية أحد سوى الله تعالى ، ألا ترى كيف نفي الله عمن