بل يجوز أيضا أن يكون السائل من الكفرة المعاندين وغرضه بذلك التلاعب والتهكم (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا) أتوا بالأعمال الحسنة الصالحة (فِي هذِهِ) الدار (الدُّنْيا حَسَنَةٌ) مثوبة حسنة جزاء إحسانهم ، والجار والمجرور متعلق بما بعده على معنى أن تلك الحسنة لهم في الدنيا ، والمراد بها على ما روي عن الضحاك النصر والفتح ، وقيل : المدح والثناء منه تعالى ، وقال الإمام : يحتمل أن يكون فتح باب المكاشفات والمشاهدات والألطاف كقوله تعالى : «والذين اهتدوا زادهم هدى» وقيل : متعلق بما قبله ، وحينئذ يحتمل أن يكون الكلام على تقدير مثله متعلقا بما بعد أولا بل تكون هذه الحسنة الواقعة مثوبة لإحسانهم في الدنيا في الآخرة ، واقتصر بعضهم على هذا الاحتمال ، والمراد بالحسنة حينئذ إما الثواب العظيم الذي أعده الله تعالى يوم القيامة للمحسنين وإما التضعيف بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما لا يعلمه غيره جل وعلا ، واختير كونه متعلقا بما بعد لأنه الأوفق بقوله سبحانه : (وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ) والكلام كما يشعر به كلام غير واحد على حذف مضاف أي ولثواب دار الآخرة أي ثوابهم فيها خير مما أوتوا في الدنيا من الثواب.
وجوز أن يكون المعنى خير على الإطلاق فيجوز إسناد الخيرية إلى نفس دار الآخرة (وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ) أي دار الآخرة حذف لدلالة ما سبق عليه كما قاله ابن عطية والزجاج وابن الأنباري وغيرهم ، وهذا كلام مبتدأ عدة منه تعالى للذين اتقوا على قولهم وهو في الوعد هاهنا نظير (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ) في الوعيد فيما مر ، وجوز أن يكون (خَيْراً) مفعول (قالُوا) وعمل فيه لأنه في معنى الجملة كقال قصيدة أو صفة مصدر أي قولا خيرا ، وهذه الجملة بدل. فمحلها النصب أو مفسرة له فلا محل لها من الإعراب ، وعلى التقديرين مقولهم في الحقيقة (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا) إلا أن الله سبحانه سماه خيرا ثم حكاه كما تقول : قال فلان جميلا من قصدنا وجب حقه علينا ، وعلى ما ذكر لا يكون دلالة النصب على ما مر لما أشير إليه هناك وإنما تكون من حيث شهادة الله تعالى بخيرية قولهم ويحتمل جعل ذلك كما الكشف مفعول (أَنْزَلَ)(١) ويكون تسميته خيرا من الله تعالى كما في قوله سبحانه : (لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) [الزخرف : ٩] ليشعر أول ما يقرع السمع بالمطابقة من غير نظر إلى فهم معناه ، وأما قولهم (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا) أي قالوا أنزل هذه المقالة فإن ما يفهم من المطابقة بعد تدبر المعنى ، وزعم بعضهم أنه لا يجوز جعله منصوبا ـ بأنزل ـ لأن هذا القول ليس منزلا من الله تعالى ، وفيه تفوت المطابقة حينئذ وهو كلام ناشئ من قلة التدبر. وفي البحر الظاهر أن (لِلَّذِينَ) إلخ مندرج تحت القول وهو تفسير للخير الذي أنزل الله تعالى في الوحي ، وظاهره أنه وجه آخر غير ما ذكر وفيه رد على الزاعم أيضا ، ولعل اقتصارهم على هذا من بين المنزل لأنه كلام جامع وفيه ترغيب للسائل ، والمختار من هذه الأوجه عند جمع هو الأول بل قيل إنه الوجه.
(جَنَّاتُ عَدْنٍ) خبر مبتدأ محذوف كما اختاره الزجاج وابن الأنباري أي هي جنات ، وجوز أن يكون مبتدأ خبره محذوف أي لهم جنات أو هو المخصوص بالمدح (يَدْخُلُونَها) نعت لجنات عند الحوفي بناء على أن (عَدْنٍ) نكرة وكذلك (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) وكلاهما حال عند غير واحد بناء على أنها علم. وجوزوا أن يكون (جَنَّاتُ) مبتدأ وجملة (يَدْخُلُونَها) خبره وجملة تجري إلخ حال ، وقرأ زيد بن ثابت وأبو عبد الرحمن جنات بالنصب على الاشتغال أي يدخلون جنات عدن يدخلونها ، قال أبو حيان. وهذه القراءة تقوي كون «جنات» مرفوعا مبتدأ والجملة بعده خبره ، وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «ولنعمة دار المتقين» بتاء مضمومة ودار مخفوضة فيكون «نعمة» مبتدأ مضافا إلى دار وجنات خبره. وقرأ إسماعيل بن جعفر عن نافع «يدخلونها» بالياء على الغيبة والفعل
__________________
(١) وقد نص سعد بن جلي على عدم المانع من جعله مفعول أنزل مقدرا اه منه.