وإيراده بالجملة الفعلية المؤذنة بالحدوث مع ثم الدالة على وقوعه بعد برهة من الدهر وتحلية (الضُّرُّ) بلام الجنس المفيدة لمساس أدنى ما ينطلق عليه اسم الجنس مع إيراده النعمة بالجملة الاسمية المؤذنة بالدوام والتعبير عن ملابستها للمخاطبين بباء المصاحبة وإيراد (ما) المعربة عن العموم على احتماليها ما لا يخفى من الجزالة والفخامة.
ولعل إيراد «إذا» دون ـ أن ـ للتوسل به إلى تحقق وقوع الجواب قاله المولى أبو السعود ، وفيه ما يعرف مع الجواب عنه بأدنى تأمل ، وكان الظاهر على ما قيل أن يقال بعد (أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ) : وما يصيبكم ضر إلا منه ليقوى انكار اتقاء غيره سبحانه لكن ذكر النفع الذي يفهم بواسطته الضر واقتصر عليه إشارة إلى سبق رحمته وعمومها وبملاحظة هذا المعنى قيل : يظهر ارتباط «وما بكم من نعمة فمن الله» بما قيله ، وسيأتي قريبا إن شاء الله تعالى ما يتعلق بذلك ، واستدل بالآية على أن لله تعالى نعمة على الكافر وعلى أن الإيمان مخلوق له تعالى.
(ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ) أي رفع ما مسكم من الضر (إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) أي يتجدد إشراكهم به تعالى بعبادة غيره سبحانه ، والخطاب في الآية إن كان عاما ـ فمن ـ للتبعيض والفريق الكفرة ، وإن كان خاصا بالمشركين كما استظهره في الكشف ـ فمن ـ للبيان على سبيل التجريد ليحسن وإلا فليس من مواقعه كما قيل ، والمعنى إذا فريق هم أنتم يشركون ؛ وجوز على هذا الاحتمال في الخطاب كون ـ من ـ تبعيضية أيضا لأن من المشركين من يرجع عن شركه إذا شاهد ضرا شديدا كما يدل عليه قوله تعالى : (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) [لقمان : ٣٢] على تقدير أن يفسر الاقتصاد بالتوحيد لا بعدم الغلو في الكفر ، و (إِذا) الأولى شرطية والثانية فجائية والجملة وبعدها جواب الشرط ، واستدل أبو حيان باقترانها بإذا الفجائية على أن إذا الشرطية ليس العامل فيها الجواب لأنه لا يعمل ما بعد إذا الفجائية فيما قبلها ، و (بِرَبِّهِمْ) متعلق ـ بيشركون ـ والتقديم لمراعاة رءوس الآي ، والتعرض لوصف الربوبية للإيذان بكمال قبح ما ارتكبوه من الإشراك الذي هو غاية في الكفران.
و (ثُمَ) قال في إرشاد العقل السليم : ليست لتمادي زمان مساس الضر ووقوع الكشف بعد برهة مديدة بل للدلالة على تراخي رتبة عليه من مفاجئات الإشراك فإن ترتبها على ذلك في أبعد غاية من الضلال.
وفي الكشف متعقبا صاحب الكشاف بأنه لم يذكر وجه الكلام في قوله تعالى : (ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ ثُمَّ إِذا كَشَفَ) وهو على وجهين والله تعالى أعلم. أحدهما أن يكون قوله سبحانه (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ) من تتمة السابق على معنى إنكار اتقاء غير الله تعالى وقد علموا أن كل ما يتقلبون فيه من نعمته فهو سبحانه القادر على سلبها ، ثم أنكر عليهم تخصيصهم بالجؤار عند الضر في مقابلة تخصيص غيره بالاتقاء ثم إشراكهم به تعالى كفرانا لتلك النعمة وجيء بثم لتفاوت الإنكارين فإن اتقاء غير المنعم أقرب من الأعراض عنه وهو متقلب في نعمه ثم اللجأ إلى هذا المكفور به وحده عند الحاجة ، وأبعد منه الإعراض ولم يجف قدمه من ندى النجاة.
والثاني أن يكون جملة مستقلة واردة للتقريع و (ثُمَ) في الأول لتراخي الزمان إشعارا بأنهم غمطوا تلك النعم ولم يزالوا عليه إلى وقت الإلجاء ، وفيه الإشعار بتراخي الرتبة أيضا على سبيل الإشارة وفي الثاني لتراخي الرتبة وحده ، اه وهو كلام نفيس ، وللطيبي كلام طويل في هذا المقام إن أردته فارجع إليه.
وقرأ الزهري «ثم إذا كاشف» وفاعل هنا بمعنى فعل ، وفي الآية ما يدل على أن صنيع أكثر العوام اليوم من الجؤار إلى غيره تعالى ممن لا يملك لهم بل ولا لنفسه نفعا ولا ضرا عند إصابة الضر لهم وإعراضهم عن دعائه تعالى عند ذلك بالكلية سفه عظيم وضلال جديد لكنه أشد من الضلال القديم ، ومما تقشعر منه الجلود وتصعر له الخدود الكفرة أصحاب الأخدود فضلا عن المؤمنين باليوم الموعود إن بعض المتشيخين قال لي وأنا صغير : إياك ثم إياك أن تستغيث