سمعت تكرير لما سبق تثنية للتقريع وتوطئة لقوله تعالى : (وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ) أي يجعلون لله تعالى ما يجعلون ومع ذلك تصف ألسنتهم الكذب وهو (أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى) أي العاقبة الحسنى عند الله عزوجل ولا يتعين إرادة الجنة.
وعن بعضهم أن المراد بها ذلك بناء على أن منهم من يقر بالبعث وهذا بالنسبة لهم أو أنه على الفرض والتقدير كما روي أنهم قالوا : إن كان محمد صلىاللهعليهوسلم صادقا في البعث فلنا الجنة بما نحن عليه ، قيل : وهو المناسب لقوله تعالى الآتي : (لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ) لظهور دلالته على أنهم حكموا لأنفسهم بالجنة ، فلا يرد أنهم كيف قالوا ذلك وهم منكرون للبعث ، وعن مجاهد أنهم يرادوا بالحسنى البنين وليس بذاك وقال بعض المحققين : المراد ـ بما يكرهون ـ أعم مما تقدم فيشمل البنات وقد علم كراهتهم لها وإثباتها لله تعالى بزعمهم والشركاء في الرئاسة فإن أحدهم لا يرضى أن يشرك في ذلك ويزعم الشريك له سبحانه والاستخفاف برسل الله تعالى عليهمالسلام فإنهم يغضبون لو استخف برسول لهم أرسلوه في أمر لغيرهم ويستخفون برسل الله تعالى عليهمالسلام وأراذل الأموال فإنهم كانوا إذا رأوا ما عينوه لله تعالى من أنعامهم أزكى بدلوه بما لآلهتهم وإذا رأوا ما لآلهتهم أزكى تركوه لها ولو فعل نحو ذلك معهم غضبوا ، وعلى هذا يفسر الجعل بما يعم الزعم والاختيار و (ما) تعم القلاء وغيرهم ولا يخلو الكلام عن نوع تكرير ، والمراد من (تَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ) يكذبون وهو من بليغ الكلام وبديعه ، ومثله قولهم : عينها تصف السحر أي ساحرة وقدها يصف الهيف أي هيفاء ، وقول أبي العلاء المعري :
سرى برق المعرة بعد وهن |
|
فبات برامة يصف الكلالا |
وسيأتي إن شاء الله تعالى قريبا تمام الكلام في ذلك ، والظاهر أن (الْكَذِبَ) مفعول (تَصِفُ) و (أَنَّ لَهُمُ) بدل منه أو بتقدير بأن لهم ولما حذفت الباء صار في موضع نصب عند سيبويه ، وعند الخليل هو في موضع جر ، وجوز أن يكون خبرا لمبتدإ محذوف كما أشرنا إليه في بيان المعنى ، وجوز أبو البقاء كون (الْكَذِبَ) بدلا ـ مما يكرهون ـ وهو كما ترى. وقرأ الحسن. ومجاهد باختلاف (أَلْسِنَتُهُمُ) بإسقاط التاء وهي لغة تميم ، واللسان يذكر ويؤنث قيل : ويجمع المذكر على ألسنة نحو حمار وأحمرة والمؤنث على ألسن كذراع واذرع. وقرأ معاذ بن جبل. وبعض أهل الشام «الكذب» بثلاث ضمات وهو جمع كذوب كصبر وصبور وهو مقيس. وقيل : جمع كاذب نحو شارف وشرف وهو غير مقيس ، ورفعه على أنه صفة الألسنة (أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى) حينئذ مفعول (تَصِفُ لا جَرَمَ) أي حقا (أَنَّ لَهُمُ) مكان ما زعموه من الحسنى (النَّارَ) التي ليس وراء عذابها عذاب وهو علم في السوأى ، وكلمة (لا) رد لكلام و (جَرَمَ) بمعنى كسب و (أَنَّ لَهُمُ) في موضع نصب على المفعولية أي كسب ما صدر منهم إن لهم ذلك.
وإلى هذا ذهب الزجاج ، وقال قطرب : (جَرَمَ) بمعنى ثبت ووجب وإن لهم في موضع رفع على الفاعلية له ، وقيل : (لا جَرَمَ) بمعنى حقا و (أَنَّ لَهُمُ) فاعل حق المحذوف ، وقد مر تمام الكلام في ذلك وحلا. وقرأ الحسن. وعيسى بن عمر «إن لهم» بكسر الهمزة وجعل الجملة جواب قسم أغنت عنه (لا جَرَمَ) وكذا قرءا بالكسر في قوله تعالى : (وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ) أي مقدمون معجل بهم إليها على ما روي عن الحسن. وقتادة من افرطته إلى كذا قدمته وهو معدى بالهمزة من فرط إلى كذا تقدم إليه ومنه أنا «فرطكم على الحوض» أي متقدمكم وكثيرا ما يقال للمتقدم إلى الماء لإصلاح نحو دلو فارط وفرط ، وأنشدوا للقطامي :
واستعجلونا وكانوا من صحابتنا |
|
كما تعجل فرّاط لوراد |
وقال مجاهد ، وابن جبير ، وابن أبي هند : أي متركون في النار منسيون فيها أبدا من أفرطت فلانا خلفي إذا تركته ونسيته ، وقرأ ابن عباس. وابن مسعود وأبو رجاء ، وشيبة ونافع. وأكثر أهل المدينة (مُفْرَطُونَ) بكسر الراء اسم