وتعداد قبائحهم ، وجاز أن يكون من تتمة سابقه على منوال (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ) [النحل : ٥٣] إلا أنه بنى على الغيبة دلالة على أنه فن آخر ، وهذا قريب المتناول ، وجاز أن يجعل عطفا على قوله تعالى : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ) فإن ما وقع من الكلام بعده من تتمته اعتراضا واستطرادا كأنه قيل : ذاك معتقدهم في المعاد وهذا في المبتدأ وهم فيما بين ذلك متدينون بهذا الدين القويم ومع اختلاف العقيدة في المبدأ والمعاد يدعون أن لهم الحسنى فيحق لهم ضد ذلك حقا ثم قال : وقوله تعالى (وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ) شديد الملائمة على هذا الوجه قوله سبحانه هنالك : (لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ) [النحل : ٣٩] ، ولقوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) [النحل : ٤٤] وفيه أن من استبان له الهدى بهذا البيان استغنى عن ذلك البيان حيث لا ينفعه إلا العلم بكذبه وهذا أنسب لتأليف النظم اه.
وأنت تعلم أن احتمال العطف بعيد ، والمراد بالكتاب القرآن فإنه الحقيق بهذا الاسم ، والاستثناء مفرغ من أعم العلل أي ما أنزلناه عليك لعلة من العلل إلا لتبين لهم اختلفوا فيه من البعث وقد كان فيهم من يؤمن به وأشياء من التحليل والتحريم والإقرار والإنكار ومقتضى رجوع الضمائر السابقة إلى الأمم السالفة أن يرجع ضمير إليهم و (اخْتَلَفُوا) إليهم أيضا لكن منع عنه عدم تأتي تبيين الذي اختلفوا فيه لهم فمنهم من جعله راجعا إلى قريش لأن البحث فيهم ومنهم من جعله راجعا إلى الناس مطلقا لعدم اختصاص ذلك بقريش ويدخلون فيه دخولا أوليا.
(وَهُدىً وَرَحْمَةً) عظيمين (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) خصهم بالذكر لكونهم المغتنمين آثاره. والاسمان ـ قال أبو حيان : ـ في موضع نصب على أنهما مفعول من أجله والناصب (أَنْزَلْنا) ولما اتحد الفاعل في العلة والمعلول وصل الفعل لهما بنفسه ، ولما لم يتحد في (لِتُبَيِّنَ) لأن فاعل الإنزال هو الله تعالى لا الرسول عليه الصلاة والسلام وصلت العلة بالحرف.
وقال الزمخشري : هما معطوفان على محل (لِتُبَيِّنَ) وهو ليس بصحيح لأن محله ليس نصبا فيعطف منصوب عليه ، ألا ترى أنه لو نصب لم يجز لاختلاف الفاعل اه. وتعقب بأن معنى كونه في محل نصب أنه في محل لو خلا من الموانع ظهر نصبه وهو هنا كذلك لمن تأمل فقوله ليس بصحيح لأن محله ليس نصبا ليس على ما ينبغي.
وقال الحلبي : إن ذلك ممنوع إذ لا خلاف في أن محل الجار والمجرور والنصب ولذا أجازوا مررت بزيد وعمرا بالعطف على المحال ؛ وللخفاجي هاهنا كلام إن أردته فارجع إليه وراجع ، ولعله إنما قدمت علة التبيين على علتي الهدى والرحمة لتقدمه في الوجه في الوجود عليهما (وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) تقدم الكلام في مثله ، وهذا على ما قيل تكرير لما سبق تأكيدا لمضمونه وتوحيدا لما يعقبه من أدلة التوحيد (فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ) بما أنبت به فيها من أنواع النباتات (بَعْدَ مَوْتِها) بعد يبسها فالإحياء والموت استعارة للإنبات واليابس ، وليس المراد إعادة اليابس بل إنبات مثله ، والفاء للتعقيب العادي فلا ينافيه ما بين المتعاطفين من المهلة ، ونظير ذلك تزوج فولد له ولد ، والآية دليل لمن قال : إن المسببات بالأسباب لا عندها ومن قال به أول (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي في إنزال الماء من السماء وإحياء الأرض ميتة (لَآيَةً) وأية آية دالة على وحدته سبحانه وعلمه وقدرته وحكمته جل شأنه ، والإشارة بما يدل على البعد إما لتعظيم المشار إليه أو لعدم ذكره صريحا (لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) قال المولى ابن الكمال : أريد بالسمع القبول كما في سمع الله لمن حمده أي لقوم يتأملون فيها ويعقلون وجه دلالتها ويقبلون مدلولها ، وإنما خص كونها آية لهم لأن غيرهم لا ينتفع بها وهذا كالتخصيص في قوله تعالى : (هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [الأعراف : ٥٢] وربما قررناه تبين وجه