العدول عن ـ يبصرون ـ إلى (يَسْمَعُونَ) انتهى ، وقال الخفاجي : اللائق بالمقام ما ذكره الشيخان وبيانه أنه تعالى لما ذكر أنه أرسل إلى الأمم السالفة رسلا وكتبا فكفروا بها فكان لهم خزي في الدنيا والآخرة عقبه بأنه أرسله صلىاللهعليهوسلم بسيد الكتب فكان عين الهدى والرحمة لمن أرسل إليه إشارة إلى أن مخالفة أمته لمن قبلهم تقربهم من سعادة الدارين وتبشيرا له عليه الصلاة والسلام بكثرة متابعيه وقلة مناويه وأنهم سيدخلون في دينه أفواجا أفواجا ثم أتبع ذلك على سبيل التمثيل لإنزاله تلك الرحمة التي أحيت من موتة الضلال إنزال الأمطار التي أحيت موات الأرض وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا ولو لا هذا لكان قوله تعالى : (وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) كالأجنبي عما قبله وبعده ، وقوله سبحانه : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) إلخ تتميم لقوله تعالى : (وَما أَنْزَلْنا) إلخ وللمقصود بالذات منه فالمناسب (يَسْمَعُونَ) لا يبصرون ولو كان تتميما لملاصقة من الإنبات لم يكن ـ ليسمعون ـ بمعنى يقبلون مناسبة أيضا ، ثم قال : ومن لم يقف على محط نظرهم قال في جوابه : يمكن أن يحمل على يسمعون قولي والله أنزل إلخ فإنه مذكر وحامل على تأمل مدلوله انتهى ، وفي قوله عقبه : بأنه أرسله صلىاللهعليهوسلم بسيد الكتب فكان عين الهدى والرحمة إشارة إلخ خفاء كما لا يخفى ، ومتى كان تتميما لقوله تعالى : (وَما أَنْزَلْنا) إلخ لم يظهر جعل المشار إليه ما سمعت وهو الظاهر ، وفي البحر أنه تعالى لما ذكر إنزال الكتاب للتبيين كان القرآن حياة للأرواح وشفاء لما في الصدور من علل العقائد ولذلك ختم بقوله سبحانه لقوم يؤمنون أي يصدقون والتصديق محله القلب ذكر سبحانه إنزال المطر الذي هو حياة الأجسام وسبب بقائها ثم أشار سبحانه بإحياء الأرض بعد موتها إلى إحياء القلوب بالقرآن كما قال تعالى : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ) [الأنعام : ١٢٢] فكما تصير الأرض خضرة بالنبات نضرة بعد همودها كذلك القلب يحيا بالقرآن بعد أن كان ميتا بالجهل ولذلك ختم تعالى بقوله سبحانه : (يَسْمَعُونَ) أي يسمعون هذا التشبيه المشار إليه والمعنى سماع انصاف وتدبر ، ولملاحظة هذا المعنى والله تعالى أعلم لم يختم سبحانه ـ بلقوم يبصرون ـ وإن كان إنزال المطر مما يبصر ويشاهد انتهى.
وفيه أيضا من التكلف ما فيه ، وأقول : لعل الأظهر أن المشار إليه ما ذكر من الإنزال والإحياء والسماع على ظاهره والكلام تتميم لملاصقه والعدول عن يبصرون إلى (يَسْمَعُونَ) للإشارة إلى ظهور هذا المعتبر فيه وأنه لا يحتاج إلى نظر ولا تفكر وإنما يحتاج المنبه إلى أن يسمع القول فقط ، ويكفي في ربط الآية بما قبلها تشارك الكتاب والمطر في الإحياء لكن في ذاك إحياء القلوب وفي هذا إحياء الأرض الجدوب فتأمل (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً) أي معبرا يعبر به من الجهل إلى العلم ، وأصل معنى العبر والعبور والتجاوز من محل إلى آخر ، وقال الراغب : العبور مختص بتجاوز الماء بسباحة ونحوها ، والمشهور عمومه فاطلاق العبرة على ما يعتبر به لما ذكر لكنه صار حقيقة في عرف اللغة؟ والتنكير للتفخيم أي لعبرة عظيمة (نُسْقِيكُمْ) استئناف بياني كأنه قيل كيف العبرة فيها؟ فقيل : نسقيكم (مِمَّا فِي بُطُونِهِ) ومنهم من قدر هنا مبتدأ وهو هي نسقيكم ولا حاجة إليه ، وضمير (بُطُونِهِ) للأنعام وهو اسم جمع واسم الجمع يجوز تذكيره وإفراده باعتبار لفظه وتأنيثه وجمعه باعتبار معناه ، ولذا جاء الوجهين في القرآن وكلام العرب كذا قيل.
ونقل عن سيبويه أنه عد الأنعام مفردا وكلامه رحمهالله تعالى متناقض ظاهرا فإنه قال في باب ما كان على مثال مفاعل ومفاعيل ما نصه : وأما أجمال وفلوس فإنها تنصرف وما أشبهها لأنها ضارعت الواحد ، ألا ترى أنك تقول : أقوال وأقاويل وأعراب وأعاريب وأيد وإياد فهذه الأحرف تخرج إلى مفاعل ومفاعيل كما يخرج الواحد إليه إذا فسر للجمع ، وأما مفاعل ومفاعيل فلا يكسر فيخرج الجمع إلى بناء غير هذا لأن هذا هو الغاية فلما ضارعت الواحد صرفت ، ثم