وقوله تعالى : (وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) قيل مرفوع بفعل مضمر يدل عليه المذكور أي ويسجد له كثير من الناس سجود الطاعة المعروف. واعترض بأنه صرح في المغني بأن شرط الدليل اللفظي على المحذوف أن يكون طبقة لفظا ومعنى أو معنى لا لفظا فقط فلا يجوز زيد ضارب وعمرو على أن خبر عمرو محذوف وهو ضارب من الضرب في الأرض أي مسافر والمذكور بمعناه المعروف. وأجاب الخفاجي بأن ما ذكر غير مسلم لما ذكره النحاة من أن المقدر قد يكون لازما للمذكور نحو زيدا ضربت غلامه أي أهنت زيدا ولا يكون مشتركا كالمثال المذكور إلا أن يكون بينهما ملاءمة فيصح إذا اتحدا لفظا وكان من المشترك وبينهما ملازمة تدل على المقدر ولذا لم يصح المثال المذكور انتهى ، وعطفه بعضهم على المذكورات قبله وجعل السجود بالنسبة إليه بمعنى السجود المعروف وفيما تقدم بمعنى الدخول تحت التسخير أو الدلالة على عظمة الصانع جل شأنه.
واستدل بذلك على جواز استعمال المشترك في معنييه أو استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه ، والجواب ما علمت ، ولا يجوز العطف وجعل السجود في الجميع بمعنى الدخول تحت التسخير أو الدلالة على العظمة لأن ذلك عام لجميع الناس فلا يليق حينئذ ذكر (كَثِيرٌ) وغير العام إنما هو السجود بالمعنى المعروف فيفيد ذكر (كَثِيرٌ) إذا أريد أن منهم من لم يتصف بذلك وهو كذلك ، وما قيل : إنه يجوز أن يكون تخصيص الكثير على إرادة السجود العام للدلالة على شرفهم والتنويه بهم ليس بشيء إذ كيف يتأتى التنويه وقد قرن بهم غير العقلاء كالدواب ، وقال ابن كمال : تمسك من جوز حمل المشترك في استعمال واحد على أكثر من معنى بقوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) الآية بناء على أن المراد بالسجود المنسوب إلى غير العقلاء الانقياد لتعذر السجود المعهود في حقه ومن المنسوب إليهم ما هو المعهود دون الانقياد لأنه شامل للكل غير مخصوص بالكثير ولا متمسك لهم في ذلك لأن كلا من التعليلين في معرض المنع ، أما الأول فلأن حقيقة السجود وضع الرأس ولا تعذر في نسبته إلى غير العقلاء ولا حاجة إلى إثبات حقيقة الرأس في الكل لأن التغليب سائغ شائع ، وأما الثاني فلأن الكفار لا سيما المتكبرين منهم لا حظ لهم من الانقياد لأن المراد منه الإطاعة بما ورد في حقه من الأمر تكليفيا كان أو تكوينيا على وجه ورد به الأمر وتقدير فعل آخر في هذا المقام من ضيق العطن كما لا يخفى على أرباب الفطن انتهى. وفيه القول بجواز العطف على كلا معنى السجود وضع الرأس والانقياد وبيان فائدة تخصيص الكثير على الثاني ، ولا يخفى أن المتبادر من معتبرات كتب اللغة أن السجود حقيقة لغوية في الخضوع مطلقا وأن ما ذكره من حديث التغليب خلاف الظاهر وكذا حمل الانقياد على ما ذكره ، وقد أخذ رحمهالله تعالى كلا المعنيين من التوضيح وقد أسقط مما فيه ما عنه غنى ، وما زعم أنه من ضيق العطن هو الذي ذهب إليه أكثر القوم وعليه يكون (مِنَ النَّاسِ) صفة (كَثِيرٌ) وأورد أنه حينئذ يرد أن سجود الطاعة المعروف لا يختص بكثير من الناس فإن كثيرا من الجن متصف به أيضا ، وكونهم غير مكلفين خلاف القول الأصح. نعم يمكن أن يقال : إنهم لم يكونوا مأمورين بالسجود عند نزول الآية وعلى مدعيه البيان ، والقول بأنه يجوز أن يراد بالناس ما يعم الجن فإنه يطلق عليهم حسب إطلاق النفر والرجال عليهم ليس بشيء. ومن الناس من أجاب عن ذلك بأن يسجد المقدر داخل في الرؤية وقد قالوا : المراد بها العلم والتعبير بها عنه للإشعار بظهور المعلوم وظهور السجود بمعنى الدخول تحت التسخير في الأشياء المنسوب هو إليها مما لا سترة عليها وكذا ظهوره بمعنى السجود المعروف في كثير من الناس ، وأما في الجن فليس كذلك فلذا وصف الكثير بكونه من الناس. وتعقب بأن الخطاب في (أَلَمْ تَرَ) لمن يتأتى منه ذلك ولا سترة في ظهور أمر السجود مطلقا بالنسبة إليه. ورد بأن مراد المجيب في أن سجود الجن ليس بظاهر في نفس الأمر ومع قطع النظر عن المخاطب كائنا من كان ظهور دخول