الأشياء المذكورة أولا تحت التسخير بخلاف سجود كثير من الناس فإنه ظاهر ظهور ذلك في نفس الأمر فخص الكثير بكونه من الناس ليكون الداخل في حيز الرؤية من صقع واحد من الظهور في نفس الأمر.
وقيل المقام يقتضي تكثير الرائين لما يذكر في حيز الرؤية والتخصيص أوفق بذلك فلذا خص الكثير بكونهم من الناس والكل كما ترى ، والأولى أن يقال : تخصيص الكثير من الناس بنسبة السجود بالمعنى المعروف إليهم على القول بأن كثيرا من الجن كذلك للتنويه بهم ، ولا يرد عليه ما مر لأنه لم يقرن بهم في هذا السجود غير العقلاء فتأمل ، وقيل : إن (كَثِيرٌ) مرفوع على الابتداء حذف خبره ثقة بدلالة خبر قسيمه عليه نحو حق له الثواب ويفيد الكلام كثرة الفريقين ؛ والأول أولى لما فيه من الترغيب في السجود والطاعة للحق المعبود ، وجوز أن يكون (كَثِيرٌ) مبتدأ و (مِنَ النَّاسِ) خبره والتعريف فيه للحقيقة والجنس أي وكثير من الناس الذين هم الناس على الحقيقة وهم الصالحون المتقون ، وقال الراغب : قد يذكر الناس ويراد به الفضلاء دون من يتناوله اسم الناس تجوزا ، وذلك إذا اعتبر معنى الانسانية وهو وجود العقل والذكر وسائر القوى المختصة به فإن كل شيء عدم فعله المختص به لا يكاد يستحق اسمه والمخصص للمبتدإ النكرة أنه صفة محذوف بالحقيقة على أن المعادلة من المخصصات إذا قلت رجال مكرمون ورجال مهانون لأنه تفصيل مجمل فهو موصوف تقديرا ولأن كلا من المقابلين موصوف بمغايرة الآخر فهذا داخل في الوصف المعنوي ، وأن يكون (كَثِيرٌ) مبتدأ و (مِنَ النَّاسِ) صفته وقوله تعالى : (وَكَثِيرٌ) معطوف عليه وقوله سبحانه : (حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ) أي ثبت وتقرر خبر ، ويكون الكلام على حد قولك : عندي ألف وألف أي ألوف كثيرة ومثله شائع في كلامهم فيفيد كثرة من حق عليه العذاب من الناس ، وهذان الوجهان بعيدان ، وقال في البحر : ضعيفان.
والظاهر أن (كَثِيرٌ) الثاني مبتدأ والجملة بعده خبره وقد أقيمت مقام لا يسجد فكأنه قيل ويسجد كثير من الناس ولا يسجد كثير منهم ، ولا يخفى ما في تلك الإقامة من الترهيب عن ترك السجود والطاعة ، ولا يخفى ما في عدم التصريح بتقييد الكثير بكونه من الناس مما يقوي دعوى أن التقييد فيما تقدم للتنويه ، وحمل عدم التقييد ليعم الكثير من الجن خلاف الظاهر جدا.
وجوز أن يكون معطوفا على من والسجود بأحد المعنيين السابقين وجملة (حَقَ) إلخ صفته ويقدر وصف لكثير الأول بقرينة مقابله أي حق له الثواب و (مِنَ النَّاسِ) صفة له أيضا ، ولا يخفى ما فيه ، وقرئ «حقّ» بضم الحاء و «حقا» أي حق عليه العذاب حقا فهو مصدر مؤكد لمضمون الجملة (وَمَنْ يُهِنِ اللهُ) بأن كتب الله تعالى عليه الشقاء حسبما استعدت له ذاته من الشر ، ومن مفعول مقدر ليهن (فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ) يكرمه بالسعادة.
وقرأ ابن أبي عبلة «مكرم» بفتح الراء على أنه مصدر ميمي كما في القاموس أي مما له إكرام ، وقيل اسم مفعول بمعنى المصدر ولا حاجة إلى التزامه ، وقيل يجوز أن يكون باقيا على ما هو الشائع في هذه الصيغة من كونه اسم مفعول ، والمعنى ما له من يكرم ويشفع فيه ليخلص من الإهانة. ولا يخفى بعده (إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) من الأشياء التي من جملتها الإكرام والإهانة ، وهذا أولى من تخصيص ما بقرينة السياق بهما.
(هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) تعيين لطرفي الخصام وتحرير لمحله فالمراد بهذان فريق المؤمنين وفريق الكفرة المنقسم إلى الفرق الخمس. وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ومجاهد وعطاء بن أبي رباح والحسن وعاصم والكلبي ما يؤيد ذلك وبه يتعين كون الفصل السابق بين المؤمنين ومجموع من عطف عليهم ، ولما كان كل خصم فريقا يجمع طائفة جاء (اخْتَصَمُوا) بصيغة الجمع.
وقرأ ابن أبي عبلة «اختصما» مراعاة اللفظ (خَصْمانِ) وهو تثنية خصم ؛ وذكروا أنه في الأصل مصدر يستوي