الفعلين للدلالة على الاستمرار التجددي ، وإظهار الجلالة في موقع الإضمار لزيادة التقرير والإيذان بأن الألوهية من موجبات أحكام آياته تعالى الباهرة. ومثل ذلك في زيادة التقرير إظهار (الشَّيْطانُ وَاللهُ عَلِيمٌ) مبالغ في العلم بكل ما من شأنه أن يعلم ومن جملته ما يصدر من الشيطان وأوليائه (حَكِيمٌ) في كل ما يفعل ومن جملته تمكين الشيطان من إلقاء الشبه وأوليائه من المجادلة بها وإبداؤه تعالى ردها ، والإظهار هاهنا لما ذكر أيضا مع ما فيه من تأكيد استقلال الاعتراض التذييلي (لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ) أي الذي يلقيه. وقيل : إلقاءه (فِتْنَةً) أي عذابا. وفي البحر ابتلاء واختبار (لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي شك ونفاق وهو المناسب لقوله تعالى في المنافقين (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) وتخصيص المرض بالقلب مؤيد له لعدم إظهار كفرهم بخلاف الكافر المجاهر (وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ) أي الكفار المجاهرين ، وقيل : المراد من الأولين عامة الكفار ومن الأخيرين خواصهم كأبي جهل والنضر وعتبة ، وحمل الأولين على الكفار مطلقا والأخيرين على المنافقين لأنهم أحق بوصف القسوة لعدم انجلاء صدأ قلوبهم بصيقل المخالطة للمؤمنين ليس بشيء.
(وَإِنَّ الظَّالِمِينَ) أي الفريقين المذكورين فوضع الظاهر موضع ضميرهم تسجيلا عليهم بالظلم مع ما وصفوا به من المرض والقسوة (لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) أي عداوة شديدة ومخالفة تامة ، ووصف الشقاق بالبعد مع أن الموصوف به حقيقة هو معروضه للمبالغة ، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله ، ولام (لِيَجْعَلَ) للتعليل وهو عند الحوفي متعلق بيحكم وعند ابن عطية بينسخ وعند غيرهما بألقي لكن التعليل لما ينبئ عنه إلقاء الشيطان من تمكينه تعالى إياه من ذلك في حق النبي صلىاللهعليهوسلم خاصة لعطف قوله تعالى : (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) وكون ضمير (أَنَّهُ) للقرآن ، وقيل لا حاجة للتخصيص وضمير (أَنَّهُ) لتمكين الشيطان من الإلقاء أي وليعلم العلماء أن ذلك التمكين هو الحق المتضمن للحكمة البالغة لأنه مما جرت به عادته تعالى في جنس الإنس من لدن آدم عليهالسلام ، وضميرا (بِهِ) و (لَهُ) في قوله تعالى : (فَيُؤْمِنُوا بِهِ) أي يثبتوا على الإيمان أو يزدادوا إيمانا (فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ) بالانقياد والخشية للقرآن على التخصيص وللرب على التعميم ، وجعلهما لتمكين الشيطان لا سيما الثاني مما لا وجه له.
ورجح ما قاله ابن عطية بأن أمر التعليل عليه أظهر أي فينسخ الله تعالى ما يلقيه الشيطان ويرده ليجعله بسبب الرد وظهور فساد التمسك به عذابا للمنافقين والكافرين أي سببا لعذابهم حيث استرسلوا معه مع ظهور فساده أو اختبارا لهم هل يرجعون عنه وليعلم الذين أوتوا العلم أن القرآن هو الحق حيث بطل ما أورد من الشبه عليه ولم يبطل هو ، وقد يقال مثل ذلك على ما ذهب إليه الحوفي ، ولا يبعد أن يكون قوله تعالى : (لِيَجْعَلَ) إلخ متعلقا بمحذوف أي فعل ذلك ليجعل إلخ والإشارة إلى النسخ والأحكام ويجعل (لِيَجْعَلَ) علة النسخ (وَلِيَعْلَمَ) علة لفعل الإتيان بالآيات محكمة ، ويجوز أن تكون الإشارة إلى التمكين المفهوم مما تقدم مع النسخ والأحكام ويجعل (لِيَجْعَلَ) علة لفعل التمكين وما بعد علة لما بعد ، ويجوز أيضا أن ترجع الضمائر في (أَنَّهُ). و (بِهِ) و (لَهُ) للموحي الذي يقرؤه كل من الرسل والأنبياء عليهمالسلام المفهوم من الكلام فلا حاجة للتخصيص ، وأيا ما كان فقوله تعالى : (وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) اعتراض مقرر لما قبله ، والمراد بالذين آمنوا المؤمنين من هذه الأمة على تقدير التخصيص أو المؤمنون مطلقا على تقدير التعميم ، والمراد بالصراط المستقيم النظر الصحيح الموصل إلى الحق الصريح أي إنه تعالى لهادي المؤمنين في الأمور الدينية خصوصا في المداحض والمشكلات التي من جملتها رد شبه الشياطين عن آيات الله عزوجل وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة «لهاد» بالتنوين.