قوله سبحانه : (مُبْلِسُونَ) قصورا فتذكر. وتروى هذه الموافقة عن معاذ بن جبل. أخرج ابن راهويه وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط وابن مردويه عن زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه قال : أملى عليّ رسول اللهصلىاللهعليهوسلم هذه الآية (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) إلى قوله : (خَلْقاً آخَرَ) فقال معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) فضحك رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال له معاذ : مم ضحكت يا رسول الله؟ قال : «بها ختمت» ورويت أيضا عن عمر رضي الله عنه ، أخرج الطبراني ، وأبو نعيم في فضائل الصحابة وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : لما نزلت (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) إلى آخر الآية قال عمر رضي الله تعالى عنه : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) فنزلت كما قال. وأخرج ابن عساكر ، وجماعة عن أنس أن عمر رضي الله تعالى عنه كان يفتخر بذلك ويذكر أنها إحدى موافقاته الأربع لربه عزوجل ، ثم إن ذلك من حسن نظم القرآن الكريم حيث تدل صدور كثير من آياته على إعجازها ، وقد مدحت بعض الأشعار بذلك فقيل :
قصائد إن تكن تتلى على ملإ |
|
صدورها علمت منها قوافيها |
لا يقال : فقد تكلم البشر ابتداء بمثل نظم القرآن الكريم وذلك قادح في إعجازه لما أن الخارج عن قدرة البشر على الصحيح ما كان مقدار أقصر سورة منه على أن إعجاز هذه الآية الكريمة منوط بما قبلها كما تعرب عنه الفاء فإنها اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله (ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ) أي بعد ما ذكر من الأمور العجيبة حسبما ينبئ عنه ما في اسم الإشارة من معنى البعد المشعر بعلو رتبة المشار إليه وبعد منزلته في الفضل والكمال وكونه بذلك ممتازا منزلا منزلة الأمور الحسية (لَمَيِّتُونَ) أي لصائرون إلى الموت لا محالة كما يؤذن به اسمية الجملة وإن اللام وصيغة النعت الذي هو للثبوت ، وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما وابن أبي عبلة وابن محيصن «لمائتون» وهو اسم فاعل يراد به الحدوث ، قال الفراء وابن مالك : إنما يقال مائت في الاستقبال فقط.
(ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) عند النفخة الثانية (تُبْعَثُونَ) من قبوركم للحساب والمجازاة بالثواب والعقاب ، ولم يؤكد سبحانه أمر البعث تأكيده لأمر الموت مع كثرة المترددين فيه والمنكرين له اكتفاء بتقديم ما يغني عن كثرة التأكيد ويشيد أركان الدعوى أتم تشييد من خلقه تعالى الإنسان من سلالة من طين ثم نقله من طور إلى طور حتى أنشأه خلقا آخر يستغرق العجائب ويستجمع الغرائب فإن في ذلك أدل دليل على حكمته وعظيم قدرته عزوجل على بعثه وإعادته وأنه جل وعلا لا يهمل أمره ويتركه بعد موته نسيا منسيا مستقرا في رحم العدم كأن لم يكن شيئا ، ولما تضمنت الجملة السابقة المبالغة في أنه تعالى شأنه أحكم خلق الإنسان وأتقنه بالغ سبحانه عزوجل في تأكيد الجملة الدالة على موته مع أنه غير منكر لما أن ذلك سبب لاستبعاد العقل إياه أشد استبعاد حتى يوشك أن ينكر وقوعه من لم يشاهده وسمع أن الله جل جلاله أحكم خلق الإنسان وأتقنه غاية الإتقان ، وهذا وجه دقيق لزيادة التأكيد في الجملة الدالة على الموت وعدم زيادته في الجملة الدالة على البعث لم أر أني سبقت إليه ، وقيل في ذلك : إنه تعالى شأنه لما ذكر في الآيات السابقة من التكليفات ما ذكر نبه على أنه سبحانه أبدع خلق الإنسان وقلبه في الأطوار حتى أوصله إلى طور هو غاية كماله وبه يصح تكليفه بنحو تلك التكليفات وهو كونه حيا عاقلا سميعا بصيرا وكان ذلك مستدعيا لذكر طور يقع فيه الجزاء على ما كلفه تعالى به وهو أن يبعث يوم القيامة فنبه سبحانه عليه بقوله : (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ) فالمقصود الأهم بعد بيان خلقه وتأهله للتكليف بيان بعثه لكن وسط حديث الموت لأنه برزخ بين طوره الذي تأهل به للأعمال التي تستدعي الجزاء وبين بعثه فلا بد من قطعه للوصول إلى ذلك فكأنه قيل : أيها المخلوق العجيب الشأن إن ماهيتك وحقيقتك تفنى وتعدم ثم إنها