بعينها من الأجزاء المتفرقة والعظام البالية والجلود المتمزقة المتلاشية في أقطار الشرق والغرب تبعث وتنشر ليوم الجزاء لإثابة من أحسن فيما كلفناه به وعقاب من أساء فيه ، فالقرينة الثانية وهي الجملة الدالة على البعث لم تفتقر إلى التوكيد افتقار الأولى وهي الجملة الدالة على الموت لأنها كالمقدمة لها وتوكيدها راجع إليها ، ومنه يعلم سر نقل الكلام من الغيبة إلى الخطاب انتهى ، وفيه من البعد ما فيه.
وقيل : إنما بولغ في القرينة الأولى لتمادي المخاطبين في الغفلة فكأنهم نزلوا منزلة المنكرين لذلك وأخليت الثانية لوضوح أدلتها وسطوع براهينها ، قال الطيبي : هذا كلام حسن لو ساعد عليه النظم الفائق ، وربما يقال : إن شدة كراهة الموت طبعا التي لا يكاد يسلم منها أحد نزلت منزلة شدة الإنكار فبولغ في تأكيد الجملة الدالة عليه ، وأما البعث فمن حيث إنه حياة بعد الموت لا تكرهه النفوس ومن حيث إنه مظنة للشدائد تكرهه فلما لم يكن حاله كحال الموت ولا كحال الحياة بل بين بين أكدت الجملة الدالة عليه تأكيدا واحدا ، وهذا وجه للتأكيد لم يذكره أحد من علماء المعاني ولا يضر فيه ذلك إذا كان وجيها في نفسه ، وتكرير حرف التراخي للإيذان بتفاوت المراتب ، وقد تضمنت الآية ذكر تسعة أطوار ووقع الموت فيها الطور الثامن ووافق ذلك أن من يولد لثمانية أشهر من حمله قلما يعيش ، ولم يذكر سبحانه طور الحياة في القبر لأنه من جنس الإعادة (وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ) إن لخلق ما يحتاج إليه بقاؤهم إثر بيان خلقهم ، وقيل : استدلال على البعث أي خلقنا في جهة العلو من غير اعتبار فوقيتها لهم لأن تلك النسبة إنما تعرض بعد خلقهم (سَبْعَ طَرائِقَ) هي السماوات السبع ، و (طَرائِقَ) جمع طريقة بمعنى مطروقة من طرق النعل والخوافي إذ وضع طاقاتها بعضها فوق بعض قاله الخليل والفراء والزجاج ، فهذا كقوله تعالى : (طِباقاً) [الملك : ٣ ، نوح : ١٥] ولكل من السبع نسبة وتعلق بالمطارقة فلا تغليب ، وقيل : جمع طريقة بمعناها المعروف وسميت السماوات بذلك لأنها طرائق الملائكة عليهمالسلام في هبوطهم وعروجهم لمصالح العباد أو لأنها طرائق الكواكب في مسيرها.
وقال ابن عطية : يجوز أن يكون الطرائق بمعنى المبسوطات من طرقت الحديد مثلا إذا بسطته وهذا لا ينافي القول بكريتها ، وقيل : سميت طرائق لأن كل سماء طريقة وهيئة غير هيئة الأخرى ، وأنت تعلم أن الظاهر أن الهيئة واحدة ، نعم أودع الله تعالى في كل سماء ما لم يودعه سبحانه في الأخرى فيجوز أن تكون تسميتها طرائق لذلك (وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ) أي عن جميع المخلوقات التي من جملتها السماوات السبع (غافِلِينَ) مهملين أمره بل نفيض على كل ما تقتضيه الحكمة ، ويجوز أن يراد بالخلق الناس ، والمعنى أن خلقنا السماوات لأجل منافعهم ولسنا غافلين عن مصالحهم ، وأل على الوجهين للاستغراق وجوز أن تكون للعهد على أن المراد بالخلق المخلوق المذكور وهو السماوات السبع أي وما كنا عنها غافلين بل نحفظها عن الزوال والاختلال وندبر أمرها ، والإظهار في مقام الإضمار للاعتناء بشأنها ، وإفراد الخلق على سائر الأوجه لأنه مصدر في الأصل أو لأن المتعدد عنده تعالى في حكم شيء واحد.
(وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً) هو المطر عند كثير من المفسرين ، والمراد بالسماء جهة العلو أو السحاب أو معناها المعروف ولا يعجز الله تعالى شيء ، وكان الظاهر على هذا ـ منها ـ بدل (السَّماءِ) ليعود الضمير على الطرائق إلا أنه عدل عنه إلى الإضمار لأن الإنزال منها لا يعتبر فيه كونها طرائق بل مجرد كونها جهة العلو ، وتقديم الجار والمجرور على المفعول الصريح للاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر ، وقوله تعالى : (بِقَدَرٍ) صفة (ماءً) أي أنزلنا ماء متلبسا بمقدار ما يكفيهم في حاجهم ومصالحهم أو بتقدير لائق لاستجلاب منافعهم ودفع مضارهم ، وجوز على هذا أن