استحقوا ما ابتلوا به من العذاب ألم تكن آياتي تتلى عليكم في الدنيا (فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) حينئذ (قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا) أي استولت علينا وملكتنا شقاوتنا التي اقتضاها سوء استعدادنا كما يومئ إلى ذلك إضافتها إلى أنفسهم. وقرأ شبل في اختياره «شقوتنا» بفتح الشين ، وقرأ عبد الله والحسن وقتادة وحمزة والكسائي والمفضل عن عاصم وأبان والزعفراني وابن مقسم «شقاوتنا» بفتح الشين وألف بعد القاف ، وقرأ قتادة أيضا والحسن في رواية خالد بن حوشب عنه «شقاوتنا» بالألف وكسر الشين وهي في جميع ذلك مصدر ومعناها ضد السعادة ، وفسرها جماعة بسوء العاقبة التي علم الله تعالى أنهم يستحقونها بسوء أعمالهم ونسب ذلك لجمهور المعتزلة ، وعن الأشاعرة أن المراد بها ما كتبه الله تعالى عليهم في الأزل من الكفر والمعاصي ، وقال الجبائي : المراد بها الهوى وقضاء اللذات مجازا من باب إطلاق المسبب على السبب ، وأيا ما كان فنسبة الغلب إليها لاعتبار تشبيهها بمن يتحقق منه ذلك ففي الكلام استعارة مكنية تخييلية ؛ ولعل الأولى أن يخرج الكلام مخرج التمثيل ومرادهم بذلك على جميع الأقوال في الشقوة الاعتراف بقيام حجة الله تعالى عليهم لأن منشأها على جميع الأقوال عند التحقيق ما هم عليه في أنفسهم فكأنهم قالوا : ربنا غلب علينا أمر منشؤه ذواتنا (وَكُنَّا) بسبب ذلك (قَوْماً ضالِّينَ) عن الحق مكذبين بما يتلى من الآيات فما تنسب إلى حيف في تعذيبنا ، ولا يجوز أن يكون اعتذارا بما علمه الله تعالى فيهم وكتبه عليهم من الكفر أي غلب علينا ما كتبته علينا من الشقاوة وكنا في علمك قوما ضالين أو غلب علينا ما علمته وكتبته وكنا بسبب ذلك قوما ضالين فما وقع منا من التكذيب بآياتك لا قدرة لنا على رفعه والإلزام انقلاب العلم جهلا وهو محال لأن ذلك باطل في نفسه لا يصلح للاعتذار فإنه سبحانه ما كتب إلا ما علم وما علم إلا ما هم عليه في نفس الأمر من سوء الاستعداد المؤدي إلى سوء الاختيار فإن العلم على ما حقق في موضعه تابع للمعلوم ، ويؤيد دعوى الاعتراف قوله تعالى حكاية عنهم.
(رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ) أي ربنا أخرجنا من النار وأرجعنا إلى الدنيا فإن عدنا بعد ذلك إلى ما كنا عليه فيها من الكفر والمعاصي فإنا متجاوزون الحد في الظلم لأن اجتراءهم على هذا الطلب أوفق بكون ما قبله اعترافا فإنه كثيرا ما يهون به المذنب غضب من أذنب إليه ، والاعتذار وإن كان كذلك بل أعظم إلا أن هذا الاعتذار أشبه شيء بالاعتراض الموجب لشدة الغضب الذي لا يحسن معه الإقدام على مثل هذا الطلب ، هذا مع أنهم لو لم يعتقدوا أن ذلك عذر مقبول والاعتذار به نافع لم يقدموا عليه ؛ ومع هذا الاعتقاد لا حاجة بهم إلى طلب الإخراج والإرجاع ، ولا يقال مثل هذا على تقدير كونه اعترافا لأنهم إنما قالوه تمهيدا للطلب المذكور لما أنه مظنة تسكين لهب نار الغضب على ما سمعت ، ثم إن القوم لعلهم ظنوا تغير ما هم عليه من سوء الاستعداد لو عادوا لما شاهدوا من حالهم في ذلك اليوم ولذلك طلبوا ما طلبوا.
وفي قولهم : (عُدْنا) إشارة إلى أنهم حين الطلب على الإيمان والطاعة فيكون الموعود على تقدير الرجعة إلى الدنيا الثبات عليهما لينتفعوا بهما بعد أن يموتوا ويحشروا فتأمل (قالَ) الله سبحانه إقناطا لهم أشد إقناط (اخْسَؤُا فِيها) أي ذلوا وانزجروا انزجار الكلاب إذا زجرت من خسأت الكلب إذا زجرته فخسأ أي انزجر أو اسكتوا سكوت هوان ففيه استعارة مكنية قرينتها تصريحية (وَلا تُكَلِّمُونِ) باستدعاء الإخراج من النار والرجع إلى الدنيا ، وقيل : لا تكلمون في رفع العذاب ، ولعل الأول أوفق بما قبله وبالتعليل الآتي ، وقيل : لا تكلمون أبدا وهو آخر كلام يتكلمون به.
أخرج ابن أبي الدنيا في صفة النار عن حذيفة «أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : إن الله تعالى إذا قال لأهل النار اخسئوا فيها