وقيل المنفي التساؤل بالأنساب فكأنه قيل لا أنساب بينهم ولا يسأل بعضهم بعضا بها ، والمراد أنها لا تنفع في نفسها وعندهم والآية في شأن الكفرة وتساؤلهم المثبت في آية أخرى ليس تساؤلا بالأنساب وهو ظاهر فلا إشكال. وروى جماعة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه سئل عن وجه الجمع بين النفي هنا والإثبات في قوله سبحانه : (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) [الصافات : ٢٧] فقال : إن نفي التساؤل في النفخة الأولى حين لا يبقى على وجه الأرض شيء وإثباته في النفخة الثانية ، وعلى هذا فالمراد عنده بقوله تعالى : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ) فإذا نفخ النفخة الأولى وهذه إحدى روايتين عنه رضي الله تعالى عنه ، والرواية الثانية حمله على النفخة الثانية ، وحينئذ يختار في وجه الجمع أحد الأوجه التي أشرنا إليها ، وقرأ ابن مسعود «ولا يسّاءلون» بتشديد السين (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) أي موزونات حسناته من العقائد والأعمال ، ويجوز أن تكون الموازين جمع ميزان ووجه جمعه قد مر.
والمعنى عليه من ثقلت موازينه بالحسنات (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الفائزون بكل مطلوب الناجون عن كل مهروب (وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ) أي موازين أعماله الحسنة أو أعماله التي لا وزن لها ولا اعتداد بها وهي أعماله السيئة كذا قيل ؛ وهو مبني على اختلافهم في وزن أعمال الكفرة فمن قال به قال بالأول ومن لم يقل به قال بالثاني ، وقد تقدم الكلام في نظير هذه الآية في سورة الأعراف فتذكر.
(فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) ضيعوها بتضييع زمان استكمالها وأبطلوا استعدادها لنيل كمالها ، واسم الإشارة في الموضعين عبارة عن الموصول ، وجمعه باعتبار معناه كما أن افراد الضميرين في الصلتين باعتبار لفظه.
(فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ) خبر ثان لأولئك ، وجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هم خالدون في جهنم ، والجملة إما استئنافية جيء بها لبيان خسرانهم أنفسهم ، وإما خبر ثان لأولئك أيضا ، وجوز أن يكون «الذين» نعتا لاسم الإشارة (خالِدُونَ) وهو الخبر ، وقيل : (خالِدُونَ) مع معموله بدل من الصلة ، قال الخفاجي : أي بدل اشتمال لأن خلودهم في جهنم مشتمل على خسرانهم ، وجعل كذلك نظرا لأنه بمعنى يخلدون في جهنم وبذلك يصلح لأن يكون صلة كما يقتضيه الإبدال من الصلة ، وظاهر صنيع الزمخشري يقتضي ترجيح هذا الوجه وليس عندي بالوجه كما لا يخفى وجهه. وتعقب أبو حيان القول بأن (فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ) بدل فقال : هذا بدل غريب وحقيقته أن يكون البدل ما يتعلق به (فِي جَهَنَّمَ) أي استقروا ، وكأنه من بدل الشيء من الشيء وهما لمسمى واحد على سبيل المجاز لأن من خسر نفسه استقر في جهنم ، وأنت تعلم أن الظاهر تعلق (فِي جَهَنَّمَ) بخالدون وأن تعليقه بمحذوف وجعل ذلك المحذوف بدلا وإبقاء (خالِدُونَ) مفلتا مما لا ينبغي أن يلتفت إليه مع ظهور الوجه الذي لا تكلف فيه ، وقوله تعالى : (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ) جملة حالية أو مستأنفة ، واللفح مس لهب النار الشيء وهو كما قال الزجاج أشد من النفح تأثيرا ، والمراد تحرق وجوههم النار ، وتخصيص الوجوه بذلك لأنها أشرف الأعضاء فبيان حالها أزجر عن المعاصي المؤدية إلى النار وهو السر في تقديمها على الفاعل.
(وَهُمْ فِيها كالِحُونَ) متقلصو الشفاه عن الأسنان من أثر ذلك اللفح ، وقد صح من رواية الترمذي وجماعة عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال في الآية : «تشويه النار فتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه وتسترخي شفته السفلى حتى تضرب سرته» وأخرج ابن مردويه والضياء في صفة النار عن أبي الدرداء قال : «قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم في قوله تعالى : (تَلْفَحُ) إلخ : تلفحهم لفحة فتسيل لحومهم على أعقابهم ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الكلوح بسور الوجه وتقطيبه ، وقرأ أبو حيوة وأبو بحرية وابن أبي عبلة «كلحون» بغير ألف جمع كلح كحذر (أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ) على إضمار القول أي يقال لهم تعنيفا وتوبيخا وتذكيرا لما به