بالتصاعد شيئا فشيئا فيرتكم منه سحاب فيقطر مطرا إما كله أو بعضه ويتفرق بعضه لبقائه على صورته الهوائية واستحالة ما قطر إلى صورته المائية فإن طالت مسافتها اتصلت فكانت قطراتها أكبر وإن اشتد البرد عليها صارت بردا أو نزلت ثلجا وامتنع تصاعد البخار عند ذلك فيبرد وجه الأرض مع برد الجو فيكون من ذلك البرد القوي فإن صادف ريحا اشتد البرد لإزالتها البخار الأرضي وإن لم يصادف ريحا أذاب البخار الثلج وسخن وجه الأرض ، وذكروا أنه كلما طالت المسافة حتى اتصلت وكبرت القطرات وصادف البرد كان البرد أكبر مقدارا وقد ينعقد المطر بردا داخل السحاب ثم ينزل وذلك في الربيع عند ما يصيبه سخونة من خارجه فتبطن البرودة في داخله عند انحلاله قطرات فيجمد وقد يكون البخار أكثر تكاثفا فلا يقوى على الارتفاع ويبرد بسرعة بما يوافيه من برد الليل لعدم الشعاع ، وليس بحيث يصير سحابا فيكون منه الظل وقد يجمد في الأعالي قبل تراكمه فيكون منه الصقيع وقد يتكاثف الهواء لإفراط البرد فينعقد سحابا ويمطر بحاله ، والحق أن كل ذلك مستندا إلى إرادة الله عزوجل ومشيئته سبحانه المبنية على الحكم والمصالح والأسباب التي ذكرت عادية ولا أرى بأسا بالقول بذلك وباعتبار أن أول الأسباب القوى السماوية وأشعتها صح أن يقال : إن الإنزال مبتدأ من السماء على ما أشار إليه العلامة البيضاوي في الكلام على سورة البقرة ، وحمل الآية على ما يوافق المشهورة لا يخل بجزالتها بل هي عليه أجزل وعن شكوك العوام أبعد لا سيما أهل الجبال الذين قد يمطرون وينزل على أرضهم البرد وهم فوق الجبال في الشمس (فَيُصِيبُ بِهِ) أي بما ينزل من البرد (مَنْ يَشاءُ) أي يصيبه فيناله ما يناله من ضرر في ماله ونفسه (وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ) أن يصرفه عنه فينجو من غائلته ، ورجوع الضميرين إلى البرد هو الظاهر.
وفي البحر يحتمل رجوعهما إلى (الْوَدْقَ) والبرد وجرى فيهما مجرى اسم الإشارة كأنه قيل فيصيب بذلك ويصرف ذلك والمطر أغلب في الإصابة والصرف وأبلغ في المنفعة والامتنان ا ه وفيه بعد ومنع ظاهر.
(يَكادُ سَنا بَرْقِهِ) أي ضوء برق السحاب الموصوف بما مر من الإزجاء والتأليف وغيرهما ، وإضافة البرق إليه قبل الإخبار بوجوده فيه للإيذان بظهور أمره واستغنائه على التصريح به وعلى ما سمعت عن أبي بجيلة لا يحتاج إلى هذا ورجوع الضمير إلى البرد أي برق البرد الذي يكون معه ليس بشيء ، وتقدم الكلام في حقيقة البرق فتذكر.
وقرأ طلحة بن مصرف «سناء» ممدودا «برقه» بضم الباء وفتح الراء جمع برقة بضم الباء وهي المقدار من البرق كالغرفة. واللقمة ، وعنه أيضا أنه قرأ «برقه» بضم الباء والراء أتبع حركة الراء لحركة الباء كما قيل نظيره في (ظُلُماتٌ) والسناء ممدودا بمعنى العلو وارتفاع الشأن ، وهو هنا كناية عن قوة الضوء ، وقرئ «يكاد سنا» بإدغام الدال في السين (يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ) أي يخطفها من فرط الإضاءة وسرعة ورودها ؛ وفي إطلاق الأبصار مزيد تهويل لأمره وبيان لشدة تأثيره فيها كأنه يكاد يذهب بها ولو عند الإغماض وهذا من أقوى الدلائل على كمال القدرة من حيث إنه توليد للضد من الضد.
وقرأ أبو جعفر «يذهب» بضم الياء وكسر الهاء ، وذهب الأخفش وأبو حاتم إلى تخطئته في هذه القراءة قالا : لأن الباء تعاقب الهمزة ، ولا يجوز اجتماع أداتي تعدية ، وقد أخطئا في ذلك لأنه لم يكن ليقرأ إلا بما روي وقد أخذ القراءة عن سادات التابعين الآخذين عن جلة الصحابة أبيّ وغيره رضي الله تعالى عنهم ولم ينفرد هو بها كما زعم الزجاج بل قرأ أيضا كذلك شيبة وخرج ذلك على زيادة الباء أي يذهب الأبصار وعلى أن الباء بمعنى من كما في قوله :
فلثمت فاها قابضا بقرونها |
|
شرب النزيف ببرد ماء الحشرج |
والمفعول محذوف أي يذهب النور من الأبصار ، وأجاز الحريري كما نقل عنه الطيبي الجمع بين أداتي تعدية.