وقوله تعالى : (أَفَرَأَيْتَ) إلخ تعجبا من حالهم مترتبا على الاستهزاء والاستعجال ، والكلام نظير ما تقول لمخاطبك : هل تغتر بكثرة العشائر والأموال فاحسب أنها بلغت فوق ما تؤمل أليس بعده الموت وتركهما على حسرة.
وهذا الوجه أظهر من الوجه الذي قبله ، وأيا ما كان فقوله سبحانه : (بعذابنا) متعلق بيستعجلون قدم عليه للإيذان بأن مصب الإنكار والتوبيخ كون المستعجل به عذابه جل جلاله مع ما فيه على ما قيل من رعاية الفواصل. وقرئ «يمتعون» من الامتاع وفي الآية موعظة عظيمة لمن له قلب. روي عن ميمون بن مهران أنه لقي الحسن في الطواف وكان يتمنى لقاءه فقال له : عظني فلم يزده على تلاوة هذه الآية فقال ميمون : لقد وعظت فأبلغت (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ) من القرى المهلكة (إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ) قد أنذروا أهلها إلزاما للحجة ، والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع خبرا مقدما و (مُنْذِرُونَ) مبتدأ ، والجملة في موضع الحال من (قَرْيَةٍ) قاله أبو حيان ثم قال : الأعراب أن يكون (لَها) في موضع الحال وارتفع (مُنْذِرُونَ) بالجار والمجرور أي إلا كائنا لها منذرون فيكون من مجيء الحال مفردا لا جملة ، ومجيء الحال من المنفي كقولك ما مررت بأحد إلا قائما فصبح انتهى ، وفي الوجهين مجيء الحال من النكرة. وحسن ذلك على ما قيل عمومها لوقوعها في حيز النفي مع زيادة من قبلها ، وكأن هذا القائل جعل العموم مسوغا لمجيء الحال قياسا على جعلهم إياه مسوغا للابتداء بالنكرة لاشتراك العلة. وذهب الزمخشري إلى أن «لها منذرون» جملة في موضع الصفة لقرية ولم يجوز أبو حيان كون الجملة الواقعة بعد إلا صفة ثم قال : مذهب الجمهور إنه لا تجيء الصفة بعد إلا معتمدة على أداة الاستثناء نحو ما جاءني أحد إلا راكب وإذا سمع خرج على البدل أي إلا رجل راكب. ويدل على صحة هذا المذهب أن العرب تقول : ما مررت بأحد إلا قائما ولا يحفظ من كلامها ما مررت بأحد إلا قائم فلو كانت الجملة في موضع الصفة للنكرة لورد المفرد بعد إلا صفة لها فإن كانت الصفة غير معتمدة على الأداة جاءت الصفة بعد إلا نحو ما جاءني أحد إلا زيد خير من عمرو فإن التقدير ما جاءني أحد خير من عمرو إلا زيد انتهى فتذكر. وايا ما كان فضمير «لها» للقرية التي هي لما سمعت في معنى الجمع فكأنه قيل وما أهلكنا القرى إلا لها منذرون على معنى أن للكل منذرين أعم من أن يكون لكل قرية منها منذر واحد أو أكثر.
وقوله تعالى : (ذِكْرى) منصوب على الحال من الضمير في (مُنْذِرُونَ) عند الكسائي وعلى المصدر عند الزجاج فعلى الحال إما أن يقدر ذوي ذكرى أو يقدر مذكرين أو يبقى على ظاهره اعتبارا للمبالغة. وعلى المصدر فالعامل (مُنْذِرُونَ) لأنه في معنى مذكرون فكأنه قيل : مذكرون ذكرى أي تذكرة. وأجاز الزمخشري أن يكون مفعولا له على معنى أنهم ينذرون لأجل الموعظة والتذكرة. وأن يكون مرفوعا على أنه خبر مبتدأ محذوف بمعنى هذه ذكرى ، والجملة اعتراضية أو صفة بمعنى منذرون ذوو ذكرى أو مذكرين أو جعلوا نفس الذكرى مبالغة لإمعانهم في التذكرة وإطنابهم فيها ، وجوز أيضا أن يكون متعلقا بأهلكنا على أنه مفعول له. والمعنى ما أهلكنا من قرية ظالمين إلا بعد ما ألزمناهم الحجة بإرسال المنذرين إليهم ليكون إهلاكهم تذكرة وعبرة لغيرهم فلا يعصوا مثل عصيانهم ثم قال : وهذا هو الوجه المعول عليه. وبين ذلك في الكشف بقوله : لأنه وعيد للمستهزئين وبأنهم يستحقون أن يجعلوا نكالا وعبرة لغيرهم كالأمم السوالف حيث فعلوا مثل فعلهم من الاستهزاء والتكذيب فجوزوا بما جوزوا وحينئذ يتلاءم الكلام انتهى ، وتعقب بأن مذهب الجمهور أن ما قبل إلا لا يعمل فيما بعدها إلا أن يكون مستثنى أو مستثنى منه أو تابعا له غير معتمد على الأداة والمفعول له ليس واحدا من هذه الثلاثة فلا يجوز أن يتعلق بأهلكنا. ويتخرج جواز ذلك على مذهب الكسائي والأخفش وإن كانا لم ينصبا على المفعول له هنا وكان ذلك لما في نصبه عليه من التكلف وأمر الالتئام سهل كما لا يخفى (وَما كُنَّا ظالِمِينَ) أي ليس شأننا أن يصدر عنا بمقتضى الحكمة ما هو في صورة الظلم لو صدر من