خلط الأفاكين الكذب فيما يتلقونه من الشياطين ، أما كثرته قبل البعثة فلظاهر الخبر المذكور ، وأما كثرته بعد البعثة فلما أخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة أنه قال في هذه الآية: كانت الشياطين تصعد إلى السماء فتستمع ثم تنزل إلى الكهنة فتخبرهم فتحدث الكهنة بما أنزلت به الشياطين من السمع وتخلط به الكهنة كذبا كثيرا فيحدثون به الناس فأما ما كان من سمع السماء فيكون حقا وأما ما خلطوه به من الكذب فيكون كذبا ، ولا يخفى أن القول بأن الشياطين بعد البعثة يلقون ما يسترقونه من السمع إلى الكهنة غير مجمع عليه ، ومن القائلين به من يجوز أن يكون ضمير (يُلْقُونَ) في الآية راجعا إلى الشياطين ، والمعنى يلقي الشياطين المسموع من الملأ الأعلى قبل أن يرجموا من بعض المغيبات إلى أوليائهم وأكثرهم كاذبون فيما يوحون به إليهم ، إذ لا يسمعونهم على نحو ما تكلمت به الملائكة عليهمالسلام لشرارتهم أو لقصور فهمهم أو ضبطهم أو إفهامهم ، وقيل : المعنى عليه ينصت الشياطين ويستمعون إلى الملأ الأعلى قبل الرجم وأكثرهم كاذبون فيما يوحون به إلى أوليائهم بعد لشرارتهم أو لأنهم لا يسمعون في أنفسهم أو لا يسمعون أولياءهم بعد ذلك السمع كلام الملائكة عليهمالسلام على وجهه ، وجملة (يُلْقُونَ) على تقدير كون الضمير للأفاكين صفة (لِكُلِّ أَفَّاكٍ) لأنه في معنى الجمع سواء أريد بإلقاء السمع الإصغاء إلى الشياطين أو إلقاء المسموع إلى الناس ، وجوز أن تكون استئنافا إخبارا لحالهم على كلا التقديرين لما أن كلا من تلقيهم من الشياطين وإلقائهم إلى الناس يكون بعد التنزل ، واستظهر تقدير المبتدأ على هذا ، وأن تكون استئنافا مبنيا على السؤال كأنه قيل : ما يفعلون عند تنزل الشياطين أو ما يفعلون بعد تنزلهم؟ فقيل : يلقون إليهم أسماعهم ليحفظوا ما يوحون به إليهم أو يلقون ما يسمعونه منهم إلى الناس ، وجوز أن تكون حالا منتظرة على التقديرين أيضا.
وهي على تقدير كون الضمير للشياطين ، والمعنى ما سمعت أولا قيل : تحتمل أن تكون استئنافا مبينا للغرض من التنزل مبنيا على السؤال عنه كأنه قيل لم تنزل عليهم؟ فقيل : يلقون إليهم ما سمعوه ، وأن تكون حالا منتظرة من ضمير الشياطين أي تنزل على كل أفاك أثيم ملقين ما يسمعونه من الملأ الأعلى إليهم ؛ وعلى ذلك التقدير والمعنى ما سمعت ثانيا قيل : لا يجوز أن تكون استئنافا نظير ما ذكر آنفا ولا أن تكون حالا أيضا لأن الفاء السمع بمعنى الإنصات مقدم على التنزل المذكور فكيف يكون غرضا منه أو حالا مقارنة أو منتظرة ويتعين كونها استئنافا للإخبار بحالهم.
وتعقب بأنه غير سديد لأن ذكر حالهم السابقة على تنزلهم المذكور قبله غير خليق بجزالة التنزيل ، ومن هنا قيل : إن جعل الضمير للشياطين وحمل إلقاء السمع على إنصاتهم وتسمعهم إلى الملأ الأعلى مما لا سبيل إليه وفيه نظر ، وجملة (أَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ) استئنافية أو تحتمل الاستئنافية والحالية ، هذا واعلم أن هاهنا إشكالا واردا على بعض الاحتمالات في الآية لأنها عليه تفيد أن الشياطين يسمعون من الملائكة عليهمالسلام ما يسمعونه ويلقونه إلى الأفاكين. وقد تقدم ما يدل على منعهم عن السمع أعني قوله تعالى : (إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ) [الشعراء : ٢١٢].
وأجيب بأن المراد بالسمع فيما تقدم السمع المعتد به وفيما هاهنا السمع في الجملة ويراد به الخطفة المذكورة في قوله سبحانه : (إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ) [الصافات : ١٠] والكلمة المذكورة في خبر الصحيحين وابن مردويه السابق آنفا ، واعترض بأن من خطف لا يبقى حيا إلى أن يوصل ما خطفه إلى وليه لظاهر قوله تعالى : (إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ) فإن ظاهره أنه يهلك بالشهاب الذي لحقه.
وأجيب بأن نفي بقائه حيا غير مسلم ، ولا نسلم أن الآية ظاهرة فيما ذكر إذ ليس فيها أكثر من اتباع الشهاب