الثاقب إياه وهو يحتمل الزجر كما يحتمل الإهلاك فليرد اتباعه للزجر مع بقائه حيا فإن الخبر المذكور يقتضي بقاءه كذلك. وجاء عن ابن عباس أن الشياطين كانوا لا يحجبون عن السماوات وكانوا يدخلونها ويأتون بأخبارها فيلقون إلى الكهنة فلما ولد عيسى عليهالسلام منعوا من ثلاث سماوات فلما ولد محمد صلىاللهعليهوسلم منعوا من السماوات كلها فما منهم من أحد يريد استراق السمع إلا رمي بشهاب وهو الشعلة من النار فلا يخطئ أبدا فمنهم من يقتله ومنهم من يحرق وجهه ومنهم من يخبله فيصير غولا يضل الناس في البراري ، وقيل : إن المراد بالسمع فيما تقدم سمع الوحي وفيما هنا سمع المغيبات غيره وهم غير ممنوعين عنه قبل البعثة وبعدها ، وهذا مأخوذ من كلام عبد الرحمن بن خلدون في مقدمة تاريخه التي لم ينسج على منوالها وإن كان للطعن فيها مجال قال : إن الآيات إنما دلت على منع الشياطين من نوع واحد من أخبار السماء وهو ما يتعلق بخبر البعثة ولم يمنعوا مما سوى ذلك ، بل ربما يقال : إن في كلامه بعد إشعارا ما بأن المنع إنما كان بين يدي النبوة فقط. لا قبل ذلك ولا بعده.
ولا يخفى أن الظواهر تشهد بمنعهم مطلقا إلى يوم القيامة ، بل قد يدعي أن في الآيات ما يدل على أن حفظ السماء بالكواكب لم يحدث وإن خلقها لذلك وهو ظاهر في أنهم كانوا ممنوعين أيضا قبل ولادته صلّى الله تعالى عليه وسلّم من خبر السماء ، ويشكل هذا على ظاهر العزل إلا أن يدعي أن المنع قبل لم يكن بمثابة المنع بعد فالعزل عما كان يجعل المنع شديدا بالنسبة إليه. وفي اليواقيت والجواهر في عقائد الأكابر لمولانا عبد الوهاب الشعراني عليه الرحمة الصحيح أن الشياطين ممنوعون من السمع منذ بعث رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلّم إلى يوم القيامة وبتقدير استراقهم فلا يتوصلون إلى الإنس ليخبروهم بما استرقوه بل تحرقهم الشهب وتفنيهم انتهى.
قيل ويلزم القائلين بهذا حمل ما في خبر الصحيحين على كهان كانوا قبل البعثة وقد أدركهم السائلون وهو الذي يقتضيه كلام القاضي أيضا. فقد نقل النووي عنه في شرحه صحيح مسلم أنه قال : كانت الكهانة في العرب ثلاثة أضرب ، أحدها أن يكون للإنسان ولي من الجن يخبره بما يسترقه من السمع من السماء وهذا القسم بطل من حين بعث نبينا صلّى الله تعالى عليه وسلّم إلى آخر ما قال. وهو ظاهر كلام البوصيري حيث يقول :
بعث الله عند مبعثه الشه |
|
ب حراسا وضاق عنها الفضاء |
تطرد الجن عن مقاعد للسم |
|
ع كما يطرد الذئب الرعاء |
فمحت آية الكهانة آيا |
|
ت من الوحي ما لهن انمحاء |
وقد قيل في الجواب عن الإشكال نحو هذا وهو أن تنزل الشياطين وإلقاؤهم ما يسمعونه من السماء إلى أوليائهم حسبما تفيده الآية المذكورة في أحد محاملها إنما كان قبل البعثة حيث لم يكن حينئذ منع أو كان لكنه لم يكن شديدا. والمنع من السمع الذي يفيده قوله تعالى : (إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ) إنما كان بعد البعثة وكان على أتم وجه ، وهذا مشكل عندي بابن الصياد وما كان منه فإنهم عدوه من الكهان ، وقد صح أنه قال للنبي عليه الصلاة والسلام حين سأله عن أمره : يأتيني صادق وكاذب وأن النبي صلّى الله تعالى عليه وسلّم امتحنه فأضمر له آية الدخان وهي قوله تعالى : (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ) [الدخان : ١٠] وقالصلىاللهعليهوسلم : خبأت لك خبأ فقال ابن الصياد : هو الدخ أي الدخان وهي لغة فيه كما ذهب إليه الجمهور فقال له النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم : «اخسأ فلن تعدو قدرك».
وقد قال القاضي كما نقل النووي عنه أيضا : أصح الأقوال إنه لم يهتد من الآية التي أضمرها النبي عليه الصلاة