وقرأ أبي بن كعب «أن يتذكر» وهو أصل ليذكر فأبدل التاء ذالا وأدغم وقرأ النخعي وابن وثاب وزيد بن علي وطلحة وحمزة «أن يذكر» مضارع ذكر الثلاثي بمعنى تذكر (وَعِبادُ الرَّحْمنِ) كلام مستأنف لبيان أوصاف خلص عباد الله تعالى وأحوالهم الدنيوية والأخروية بعد بيان حال النافرين عن عبادته سبحانه والسجود له عزوجل وإضافتهم إلى الرحمن ذوي غيره من أسمائه تعالى وضمائره عزوجل لتخصيصهم برحمته أو لتفضيلهم على من عداهم لكونهم مرحومين منعما عليهم كما يفهم من فحوى الإضافة إلى مشتق. وفي ذلك أيضا تعريض بمن قالوا : وما الرحمن؟. والأكثرون أن عبادا هنا جمع عبد ، وقال ابن بحر : جمع عابد كصاحب وصحاب وراجل ورجال ويوافقه قراءة اليماني «وعبّاد» بضم العين وتشديد الباء فإنه جمع عابد بالإجماع وهو على هذا من العبادة وهي أن يفعل ما يرضاه الرب وعلى الأول من العبودية وهي أن يرضى ما يفعله الرب ، وقال الراغب : العبودية إظهار التذلل والعبادة أبلغ منها لأنها غاية التذلل. وفرق بعضهم بينهما بأن العبادة فعل المأمورات وترك المنهيات رجاء الثواب والنجاة من العقاب بذلك والعبودية فعل المأمورات وترك المنهيات لا لما ذكر بل لمجرد إحسان الله تعالى عليه. قيل : وفوق ذلك العبودة وهو فعل وترك ما ذكر لمجرد أمره سبحانه ونهيه عزوجل واستحقاقه سبحانه الذاتي لأن يعظم ويطاع ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : (فَصَلِّ لِرَبِّكَ) [الكوثر : ٢] وقرأ الحسن «وعبد» بضم العين والباء. وهو كما قال الأخفش جمع عبد كسقف وسقف. وأنشد :
انسب العبد إلى آبائه |
|
أسود الجلدة من قوم عبد |
وهو على كل حال مبتدأ وفي خبره قولان : الأول أنه ما في آخر السورة الكريمة من الجملة المصدرة باسم الإشارة ، والثاني وهو الأقرب أنه قوله تعالى : (الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) والهون مصدر بمعنى اللين والرفق ، ونصبه إما على أنه نعت لمصدر محذوف أي مشيا هونا أو على أنه حال من ضمير (يَمْشُونَ) والمراد يمشون هينين في تؤدة وسكينة ووقار وحسن سمت لا يضربون بأقدامهم ولا يخفقون بنعالهم أشرا وبطرا ، وروي نحو هذا عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة والفضيل بن عياض وغيرهم ، وعن الإمام أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه أن الهون مشي الرجل بسجيته التي جبل عليها لا يتكلف ولا يتبختر.
وأخرج الآمدي في شرح ديوان الأعشى بسنده عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه رأى غلاما يتبختر في مشيته فقال له : إن البخترة مشية تكره إلا في سبيل الله تعالى. وقد مدح الله تعالى أقواما بقوله سبحانه : (وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) فاقصد في مشيتك. وقيل : المشي الهون مقابل السريع وهو مذموم فقد أخرج أبو نعيم في الحلية عن أبي هريرة وابن النجار عن ابن عباس قالا : «قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم سرعة المشي تذهب بهاء المؤمن».
وأخرج ابن أبي حاتم عن ميمون بن مهران إن (هَوْناً) بمعنى حلماء بالسريانية فيكون حالا لا غير ، والظاهر أنه عربي بمعنى اللين والرفق. وفسره الراغب بتذلل الإنسان في نفسه لما لا يلحق به غضاضة وهو الممدوح. ومنه الحديث «المؤمن هين لين» والظاهر بقاء المشي على حقيقته وأن المراد مدحهم بالسكينة والوقار فيه من غير تعميم. نعم يلزم من كونهم يمشون كذلك أنهم هينون لينون في سائر أمورهم بحكم العادة على ما قيل.
واختار ابن عطية أن المراد مدحهم بعدم الخشونة والفظاظة في سائر أمورهم وتصرفاتهم. والمراد أنهم يعيشون بين الناس هينين في كل أمورهم. وذكر المشي لما أنه انتقال في الأرض وهو يستدعي معاشرة الناس ومخالطتهم واللين مطلوب فيها غاية الطلب. ثم قال : وأما أن يكون المراد مدحهم بالمشي وحده هونا فباطل فكم ماش هونا رويدا وهو